الطبقة السياسية تنشر «غسيلها» على حبال المحكمة
تدلى الغسيل اللبناني المتسخ على حبال المحكمة الدولية، في وضح النهار، مع تلاحق الشهود وتدفق الشهادات.
تشعبت قضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري في لاهاي الى حد انها كادت تصبح مجرد تفصيل، وسط كمّ كبير من القش السياسي اليابس الذي كثيرا ما كان يشتعل بثقاب سؤال من هذا القاضي او ذاك المحامي.
ومع تدحرج أحجار الدومينو، فُتحت الأنفاق والسراديب اللبنانية على مصراعيها، لتفوح منها رائحة العفن السياسي، وتتكشف طبيعة العلاقات والمصالح التي كانت تربط او تفرق بين مراكز القوى، لبنانيا وسوريا.
بهذا المعنى، بدا ان الكثيرين من الشهود قد انزلقوا شيئا فشيئا الى قفص الاتهام، مع إماطة اللثام عن الكثير من الادوار والوقائع المتصلة بالحقبة الماضية وبنمط السلوك الذي كان يدير الدولة الافتراضية خلال تلك الحقبة.
لقد تكشفت على هامش جريمة اغتيال الرئيس الحريري جرائم اغتيال سياسي ومعنوي لحقوق الدولة، على أيدي أهلها ورعاتها، وطافت على سطح لاهاي بقايا الصراعات التي كانت تنشب بين الحاكمين حول كيفية اقتسام المصالح وتوزع النفوذ في جمهورية نخرها الفساد، بكل أنواعه.
أغلب الظن، ان الحقيقة المجردة في جريمة قتل الحريري لن يُعثر عليها في شوارع لاهاي، لكن حقائق من نوع آخر ستخرج من أروقة المحكمة، عن غير قصد، وستكون كافية للإدانة الاخلاقية لشريحة واسعة من الطبقة السياسية والحكم عليها بـ «المؤبد السياسي».
والمفارقة، ان المحكمة وتحت شعار حماية الشهود والمحافظة على أمنهم، تُخضعهم لقواعد صارمة وتعاملهم معاملة جافة، لا تراعي كثيرا مكانة الشاهد المعنوية او الرسمية.
ويروي عائدون من لاهاي، انه منذ ان تطأ قدما الشاهد أرضها، وحتى لحظة مغادرته، يشعر بان هناك دائما من يحصي أنفاسه ونظراته وحتى أفكاره ونياته. وأولى الاشارات غير المشجعة تبدأ من عرض المحكمة على الشاهد استضافته في فندق ثلاثة نجوم والسفر عبر الدرجة العادية، وهو ما يرفضه معظم الشهود الذين يبادرون الى الحجز في فندق خمسة نجوم والسفر عبر درجة رجال الأعمال، مع ما يتطلبه ذلك من نفقات إضافية يتولى الشاهد المعني تسديدها من جيبه الخاص.
ومع دنو لحظة الاستماع الى الشاهد، يتولى عدد من الحراس اصطحابه الى مقر المحكمة الذي كان سجنا للمخابرات، وسط تدابير مشددة تبلغ حد منعه من فتح نافذة السيارة، ودائما على قاعدة حمايته، فيما عيون المرافقين تغزل صعودا وهبوطا.
وعند الوصول، تدخل السيارة الى موقف ضيق بالكاد يتسع لها، ثم يجري إقفاله بباب حديدي ينزل من الأعلى الى الاسفل، ولا يلبث ان يُحدث دويا قويا عند ارتطامه بالارض، كأنه دوي الانفصال عن العالم الخارجي.
بعد نزوله من السيارة، يدخل الشاهد الى مكان ضيق ومقفل تعلو أحد جدرانه مروحة للتهوئة، ثم ينتقل بمواكبة الحراس من غرفة الى أخرى، حتى يصل الى حجرة صغيرة ينتظر فيها لبعض الوقت، قبل ان يأتي من يدعوه الى دخول قاعة المحكمة التي تبعد أمتارا قليلة عن حجرة الانتظار.
في قلب القاعة، يشعر الشاهد برهبة المكان المزدحم بالقضاة والمحامين الذي سيتولون تباعا تشريح ضيفهم بـ «شفرة» العيون و «مبضع» الاسئلة، مباشرة على الهواء، وعلى مدى ساعات طويلة من «الاستجواب» الذي يجري تغليفه او تلطيفه بمقولة «الاستماع».
يبدو الامر أقرب الى «حرب نفسية»، تستخدم فيها المحكمة، كل التكتيكات والمناورات في مواجهة شهود يفتقرون في معظمهم الى خبرة التعامل مع مثل هذه المواقف.
ويشير عائد من لاهاي الى ان المحكمة تحاول إنهاك شهودها واستنزافهم، كأنها تراهن على تعبهم وانهيارهم في الامتار الاخيرة، مشبها ما يجري في أروقتها بـ «سباق مع الوقت والضغوط، يحتاج لعدم خسارته الى نَفَس طويل، وحضور ذهني، وتناسق في المنطق، وتسلسل منهجي في الافكار، واستعداد مستمر لمواجهة كمائن الأسئلة المباغتة».
ويلفت صاحب التجربة الانتباه الى ان الملاحظ انه يتم في المحكمة تجريد الشهود، مهما علا شأنهم، من كبريائهم وصفاتهم الاعتبارية، في عملية نزع بل تمزيق لآخر أوراق التوت، الامر الذي يؤدي الى شيء من «الانكسار المعنوي»، خصوصا لدى من لا يكون مهيئا للتحمل.