قياساً على حجمه في شكله ومضمونه وتوقيته لم يكن سهلاً على القادة اللبنانيين استيعاب قرار المجلس الدستوري، بفارق وحيد أنّ بعضاً منهم استوعب الصدمة بقدرة قادر، في وقت أحيا هذا القرار مجموعة المتناقضات التي كانت مخفيّة حتى الأمس القريب وانفجرت بعض «الألغام المغمورة» بين بعبدا والسراي الحكومي بدلاً من عين التينة. فلماذا حصل هذا؟ وما هي الوسائل المُتاحة لتجاوز الأزمة؟
فشلت الحكومة في جلستها الإستثنائية أمس الأوّل في التوصّل الى صيغةٍ تُخرجها من المأزق في ظلّ وجود اكثر من سيناريو مقترَح للخروج من الأزمة المالية والإقتصادية والسياسية والإدارية والنيابية في مواجهة قرار المجلس الدستوري الذي قادت اليه القرارات التي طُبِخت في مجموعة مواقع جمعت ممثلين في مشاركة الأقوياء الذين تمثّلوا بالرباعية أو الخماسية النيابية ـ الحكومية ـ الحزبية ولم يحتسبوا لإمكان الطعن وما قاد اليه.
وبلا شك فإنّ فشلَ الحكومة في توفير مخرج للمأزق الكبير لا يعني فشلاً لرئيسها أو لأيّ فريق فيها منفرداً ممَّن اعتبر أنّ قرار المجلس الدستوري قد استهدفه ونال منه أكثر من سواه. بل يعكس فشلاً يصيب السلطة السياسية بطاقمها الكامل الممثّل في السلطتين التشريعية والتنفيذية على حدٍّ سواء.
فمبدأ الفصل بين السلطات معدوم ولا وجود له، والحكومة بتركيبتها الحالية لا تعدو كونها «مجلس إدارة» كلّفها المجلس النيابي بالثقة التي منحها اياها شرف تمثيله بنحوٍ دقيق لا يرقى اليه زغل أو شك.
وفي ظلّ هذه المعادلات السياسية التي ظهرت في الأيام التي تلت صدور قرار المجلس الدستوري قد يقول قائل، إنّ هذا القرار قد صوّب واستهدف المجلس النيابي قبل غيره من المؤسسات الأخرى في البلاد. فلماذا تردّدت أصداؤُه في السراي الحكومي وقصر بعبدا وفي كل مكان سوى في عين التينة أو ساحة النجمة المعنيتين بجلسة إقرار القانون والتشوّهات التي كشف عنها قرارُ الدستوري.
فقرار الإبطال استهدف طريقة إدارة الجلسة النيابية واعتبرها خروجاً على مضمون المادة 36 من الدستور التي تقول بضرورة المناداة على النواب بالإسم عند التصويت على أيّ قانون جديد فأُبطِلَ القانون كاملاً من دون الوصول الى أيّ تفاصيل أخرى ناتجة عن إلقاء الضوء على المخالفات الدستورية التي لا تقلّ أهميةً عن الأولى، ومنها ما شكّل خروجاً وخرقاً لمضمون مقدّمة الدستور التي أُصيبت في الصميم من خلال ما نصّت عليه المادة 17 من قانون الضرائب لجهة مخالفتها مبدأ المساواة بين المواطنين والتي اعتبرت باللغة الاقتصادية فرضاً للضريبية المزدوجة المحظورة بفعل قرارات داخلية وأُخرى تناولتها اتفاقاتٌ دولية وقّع عليها لبنان مع عشرات الدول.
ويقول العارفون إنّ تجنيب مجلس النواب المواجهة الحتمية مع المجلس الدستوري عبر بطريقة سلسة، عندما سارع المعاون السياسي لرئيس المجلس النيابي وزير المال علي حسن خليل في خطوة عاجلة وذكية، الى تلقّف نتائج القرار الدستوري وتداعياته ووضعها في «حضن» الحكومة بدلاً من أن تكون في «حضن» المجلس النيابي وفرضها بنداً أوّلاً على جدول اعمال رئيس الحكومة الذي سارع الى إلغاء كل مواعيده للتفرّغ للموضوع والبحث عن المخارج الممكنة لتجاوز الضربة الموجعة التي سدّدها المجلس الدستوري للسلطة التنفيذية التي سبق لها أن ربطت بين مصير قانون الضرائب وقانون سلسلة الرتب والرواتب على رغم الفصل القائم دستورياً وطبيعياً بين القانونين.
وأمام هذه الوقائع تبنّت الحكومة العملية من باب المواجهة الحتمية، وعلى رغم امتعاضها من القرار والطعن الذي تقدّم به رئيس الكتائب وكتلة نواب الحزب ومجموعة من النواب الآخرين المستقلّين الذي قاد اليه، فقد رضخت للقرار سياسياً قبل أن يكون فرضاً دستورياً فقرار المجلس الدستوري لا نقاش فيه ولا سبيل الى التهرّب من تنفيذه فكان ما كان.
وعلى هامش المواجهة التي لم تحتسب لها الحكومة جرياً على التجارب السابقة التي شُلَّ فيها المجلس الدستوري، فقد تطوّرت المواقف سلباً بسبب الخلاف المفاجئ بين رئيسَي الجمهورية والحكومة نتيجة اللقاء الذي عقده وزير الخارجية جبران باسيل مع نظيره السوري وليد المعلم فتشابكت المواقف وبرزت الى السطح بوادر خلاف كبير بين المرجعيّتين.
ولهذه الأسباب وجد رئيسُ الحكومة نفسه في مواجهة على خطّين متوازيَين: الأوّل مع النقابات والإتّحادات العمالية التي رفضت اصلاً المَسّ بقانون السلسلة ودعت الى إضرابٍ شلّ البلد بكل قطاعاته الرسمية الإدارية والتربوية. والثاني مع رئاسة الجمهورية التي تمنّت الإشراف على معالجة الموقف بدعوة عاجلة لمجلس الوزراء في قصر بعبدا عصر الأحد بدلاً من الإثنين لإستباق زيارة الرئيس عون الى العاصمة الفرنسية.
ولكنّ ما حصل لاحقاً لم يكن في الحسبان، وزاد في الطين بلة عندما أبلغ وزير الداخلية نهاد المشنوق قصر بعبدا إعتذارَه عن مرافقة رئيس الجمهورية الى فرنسا على وقع اتّهام باسيل بخروجه على التفاهمات السابقة واتّهامه من خلال لقائه بالمعلم بناءً لطلبه، بتوجيه ضربة قاتلة الى البيان الوزاري ورئاسة الحكومة مباشرة، فتعقّدت الأمور ورفض رئيس الجمهورية ترؤُس جلسة مجلس الوزراء تارِكاً للحكومة أن تتدبّر أمرها في هذه الظروف الصعبة أيّاً كانت النتائج المترتّبة عليها.
وما عقّد الأمور أكثر، أنّ رئيس الجمهورية تبنّى في تغريدة «تويترية» صباحية قرار المجلس الدستوري معتبراً أنّ «إلغاءَ المجلس الجدول الضريبي هو ممارسة لدوره الطبيعي الذي يشكّل حجراً أساسياً في بناء دولة المؤسسات». وبذلك انفجرت الأزمة بين السراي الحكومي وبعبدا على غير ما كان يشتهي البعض وارتاحت عين التينة من عناء المواجهة وباتت في موقع المتفرّج بدلاً أن تكون في موقع المُدان.
وامام هذا الواقع الصعب ستجد الحكومة المدعوّة الى اجتماع اليوم، نفسها أمام معادلة جديدة وصعبة فمعظم الوزراء الممثلين للكتل النيابية من «حزب الله» الى «القوات اللبنانية» والحزب التقدّمي الإشتراكي وحركة «أمل» والحزب السوري القومي الإجتماعي و«الطاشناق» ومعهم «التيار الوطني الحر» لا يمكنهم مجاراة رئيس الحكومة في تأجيل دفع ما رتّبته السلسلة للأسلاك المدنية والعسكرية وفي القطاعات الأخرى وقد انعكس ذلك تعدّداً في المخارج الموجعة.
وأمام هذه الصورة المعقّدة يبقى من الضروري لفت المؤيّدين لقرار المجلس الدستوري أنه لا يمكنهم الترحيب بهذا القرار وإدانة الطعن شكلاً ومضموناً، وعليهم مراجعة حساباتهم ومواقفهم وسحب التهمة المتّصلة بـ«الشعبوية» قبل أن ترتدّ عليهم. فمن الواضح، وفي ظلّ الرفض الشعبي الواسع، أنّ أحداً لا يمكنه إتّهام المعارضة التي طعنت بالقانون وتحميلها مسؤولية فشل الحكومة في تنفيذ قرارات السلسلة ومعها الضرائب الجديدة إذا لم تُثبت قدرتها على الخروج من المأزق.