ليس صعباً استغلال التحرّك الذي دعَت إليه مجموعة «طِلعت ريحتكم» في وسط بيروت عندما يكون هناك قرار بتحويل المجتمع المدني «شغَباً مدنياً» أو«إرهاباً مدنياً». فالجهة الداعية إلى التحرّك مجموعةٌ مجهولة لدى كثيرين، وليس بمقدورها قيادة تحرّك شعبي بهذا الحجم وضبطُه، وسط شكوكٍ تحيط بانتماءات بعض عناصرها. فلماذا حصَل ما حصل؟ وهل وصَلت رسالتهم؟ ولماذا؟
يسعى القادة الأمنيون الذين يحقّقون في الأحداث التي شهدَها وسط بيروت إلى استشكاف كثير ممّا هو غامض بحثاً عن الأسباب والظروف التي رافقَت تحَوّلَ الاعتصامات المدنية كما أرادها الداعون والمنَظّمون، من حركة مدنية وسِلمية عابرة للطوائف والأحزاب إلى أعمال شغَب إرهابية تمثّلَت بالاعتداء على العسكريين المكلّفين حماية المقارّ الرسمية والمؤسسات، وعلى الممتلكات والمنشآت العامّة والخاصة.
ففي وقتٍ حرصَ الداعون إلى التحرّك على حصرِ مطالبهم بمعالجة ملفّ النفايات والإسراع بمعالجتها لوقفِ المجزرة البيئية والصحّية المرتكَبة بحقّ المواطنين وتحميل رئيس الحكومة والوزراء المعنيين مسؤولية ما آلَ إليه الوضع، إندَسَّت بعض المجموعات بين المتظاهرين لحَرفِ التحرّك عن أهدافه المعلَنة، فعَلا الصُراخ لإسقاط النظام واستدراج القوى الأمنية إلى مواجهة مع المتظاهرين لا يريدها دعاة التحرّك ولا القادة الأمنيون. لكنّ عدمَ قدرة المنظّمين على ضبطِ التحرّك الشعبي وعدم سَدّ المنافذ إليه على مثيري الشغَب حالَ دونَ بَقاء التحرّك كما أريدَ له أن يكون.
وعلى رغم كلّ ما رافقَ التحرّك مِن مواقف حادّة تجاه رئيس الحكومة تمّام سلام والوزراء، ولا سيّما منهم وزيري البيئة والداخلية، فقد بقيَت خطوط التواصل مفتوحة بين القادة الأمنيين ومسؤولي حملة «طِلعت ريحتكم» على خلفية ما توافرَ من معلومات عن سعي جهات سياسية وحزبية لحرفِ التظاهرة عن أهدافها.
وأكثر مِن ذلك فقد تحدّثَت المعلومات عن محاولة مجموعاتٍ معروفةٍ أسماءُ عناصرِها قصَدت ساحة رياض الصلح بهدف التخريب في الوسط التجاري، وكانت تنوي الوصولَ إلى أسواق بيروت وسوق الصاغة بهدف نهبِ المحالّ التجارية فيهما.
لكن ما حالَ دونَ منعِ هؤلاء عن التخريب كان سوءُ التنسيق بين الدولة ومنظّمو الحراك. فالمخرّبون كانوا معروفين ودُلَّ عليهم بالإصبع وناداهم بعضُ المتظاهرين بالإسم، ولكن رغم ذلك فقد نجَحوا في استدراج القوى الأمنية إلى مواجهات تسَبَّبَت بحرقِ آليّات لقوى الأمن الداخلي وتخريب في المنشآت وتحطيم إشارات السير وكاميرات المراقبة في المنطقة.
كانت كلّ السيناريوهات المتوقّعة لتحويل الحركة السِلمية حركةً تخريبية واضحةً بكلّ مراحلها. وفيما كان الخبَراء البيئيون يسهِبون في شرح المخارج التي يمكن اللجوء إليها لمواجهة أزمة النفايات، كان آخَرون ينادون بإسقاط النظام والتحريض على القوى السياسية التي عطّلت الحكومة، خصوصاً بعدما تشاركوا في توجيه التهمة إلى فئة منهم مع رئيس الحكومة تمّام سلام الذي تحدّث عن «النفايات السياسية» التي تعوق الوصولَ إلى حلّ للنفايات المنزلية واضعاً نفسَه إلى جانبهم في الموقع المستهدَف من مجموعة تتحكّم بالعمل الحكومي وتسعى إلى تعطيل آخِر المؤسسات الدستورية التي تشير إلى بقاء وجود رمزي للدولة ومؤسساتها الدستورية.
ويعترف أحد الذين توَسّطوا بين السراي الحكومي ومنظّمي التحرّك أنّه اقترحَ منذ ما بعد ظهر الأحد التجاوبَ مع خريطة الطريق التي اقترحَها سلام ووقفَ التحرّك المسائي بعدم تكرار الدعوة إليه، وذلك حمايةً للحدّ الأدنى من الأهداف التي أرادوها وستكون معرّضة للسَرقة والتحوير في اتّجاهٍ آخَر فتَذهب مساعيهم هباءً.
وتبقى الإشارة واضحةً إلى قدرة مثيري الشغَب المدفوعين من قوى الأمر الواقع لإفشال التحرّك بأقلّ كِلفة معينة، متى كانت الطريق قصيرة ما بين الخندق الغميق وحي اللجا وساحة رياض الصلح، وهو ما أدّى إلى ضرورة احتساب أيّ خطوة من هذا النوع في المرّة المقبلة، فلِحركة الشارع أربابُها. وإلّا ما معنى أن تنتهي التحرّكات بإحراق خيَم أهالي العسكريين المخطوفين في عرسال، وتكسير واجهات المحالّ التجارية؟
وما معنى أن ينتهي الاعتصام بإعادة توزيع «ثروة النفايات» التي جرَت أمس «بالعدل والقسطاس» على الطاقم السياسي الذي انتفضَ في وجهه قادةُ المجتمع المدني أمس وأوّل أمس ؟