IMLebanon

هكذا تم استهداف «البوسطة»

صعد الفتى الفلسطيني ابن الخامسة عشر إلى باص استأجره رفاق له في «جبهة التحرير العربية» للعودة إلى مخيم تل الزعتر، قبل ازدحام السير. أنهكهم التعب اثر مشاركتهم باحتفال ذكرى «عملية الخالصة الاستشهادية» الذي نظمته «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة». كانت يومها أحزاب وفصائل فلسطينية قد أعلنت عن قيام «جبهة الرفض» فوجدت تلك الفصائل في السنوية الاولى لـ «عملية الخالصة»، التي كانت حصلت في 11/4/1974، مناسبة لتأكيد حضورها عبر استعراض عسكري ضخم سار من منطقة الفاكهاني باتجاه كورنيش المزرعة فجامع عبد الناصر فالبربير، ومن هناك نحو مستديرة شاتيلا حيث اقيم المهرجان الخطابي. انطلق الباص وبداخله 33 شاباً فلسطينياً ولبنانياً ممن يسكنون في مخيم تل الزعتر ومحيطه.

جلس «أبو ديب» إلى جانب صديق عمره محمد ابو خليل وأخيه احمد، فالباص صغير جداً على العدد الكبير، مما اضطر ركابه للتكدس على المقاعد. ولكثرة التعب، كان الصمت عنوان رحلة العودة، بعكس رحلة الصباح التي حفلت بالغناء والهتافات والأناشيد، رافعين الاعلام الفلسطينية.

سلك الباص طريقه من شارع أسعد الأسعد وتجاوز طريق صيدا القديمة متجهاً نحو الشارع العريض في عين الرمانة. وما إن وصل الباص الى منطقة «المراية» حتى أطلّ مسلح من زاوية الطريق وشرع في إطلاق النار على عجلات الباص. مع توقف الباص قفز مسلحان آخران يحملان عموداً خشبياً وقطعا به الطريق. صرخ أبو صلاح، مسؤول الباص، «لا لا لا»، لكن أحداً لم يسمع وسط استمرار إطلاق الرصاص. لحظات قليلة مرّت، وقف ابو ديب خلالها يراقب ما يجري من حوله، وسط حالة من الذهول والاستغراب. شاهد السائق يترجل من الباص رافعاً يديه ويصيح «أنا الشوفير وأنا لبناني»، لكن مسلحاً عاجلة برمية من سلاحه الحربي أسقطته أرضاً، ليبداً بعدها إطلاق النار بكثافة من كل الجهات، وبمشاركة مربض رشاش من عيار 500 كان منصوباً قرب مركز تابع لـ «حزب الكتائب». أصيب أبو ديب في كتفه فهوى على المقعد ليرى صديقيه وقد قتلا على الفور. ما هي إلا ثوان حتى أحس بجسد ضخم يسقط فوقه. إنه أبو صلاح، وقد قتل هو الآخر بعدما أصيب برأسه.

كان صوت الرصاص يحجب عنه صراخ الجرحى وأنينهم.. وحتى تمتمات شيخ معمم سمعه يقرأ القرآن الى ان اختفى صوته، فأدرك الفتى أن الشيخ مات. صوت آخر تسلل وسط رائحة الدم والموت هو صوت صديقه حاتم الذي كان يصرخ بصورة هستيرية وهو يقول باكياً إن حاتم مات (صديق آخر يحمل الاسم نفسه) قبل أن يختفي حسّه هو أيضاً.

توقف إطلاق النار بعد وصول سيارات الاسعاف. استشهد 22 شخصاً ممن كانوا على متن الباص، فيما أصيب البقية بجراح. حين صعد رجال الاسعاف إلى الحافلة ظنّوا أن «أبو ديب» ميت. لكن عندما حرك إحدى يديه من فوق جثتي أبي خليل وأبي صلاح، صرخ أحدهم إنه على قيد الحياة، فسحبوه الى سيارة الاسعاف. لكن قبل ان تنطلق السيارة صرخ مسلح بالسائق مجبراً إياه على التوقف. بعد التلاسن مع السائق، فتح المسلح باب الاسعاف بالقوة ورمى الفتى خارجاً، لينهال عليه ضربا مستخدما بندقيته، بعد أن منعه السائق من إطلاق النار قائلا «انه جريح وهو في حوزتنا».

غاب الفتى عن الوعي جراء التعذيب وضربة قوية على الرأس ولم يستفق إلا في المستشفى.

بالنسبة لابي ديب، ابن السادسة والخمسين، الذي يحمل كنيته منذ صغره، لم تبدأ المجرزة عند «بوسطة عين الرمانة» كما لم تنته فصولها معها. المجزرة بدأت يوم أخرجه الصهاينة من قريته نحف في قضاء – عكا، وحمل من بعدها صفة لاجئ، محروماً من أرضه ومن حقه في الحياة الكريمة.