كل 100 منقوشة تحتاج إلى كيلو زعتر
نسمع أن الزعتر غذاء ودواء وأن «عروسة» زعتر وزيت عند الصبح تجعل الأولاد يتّقدون ذكاءً وينجزون امتحاناتهم بتفوّق وينالون علامة: 10 على 10. نصدق أو لا نصدق؟ ليست هذه هي طبعاً كلّ الحكاية بل: أيّ زعتر نأكل؟ سألنا، راجعنا، وتأكدنا أن سلامة الغذاء ليست سالمة آمنة.
كان يمرّ «فقراء» بلادنا، وأغنياؤه، «على الطالع وعلى النازل» على أحد الأفران ويتناولون ما يسدّ الجوع وما يفتح الشهية، بأبخس الأسعار: منقوشة بزعتر (أو صعتر). إنها أشهى ما قد يأكل اللبناني وغير اللبناني ورائحتها «تشقّ القلب». ولبنان، لمن نسي في حمأة الأحداث، كسر الأرقام القياسية في كتاب غينيس بوك عن منقوشة طولها أكثر من 43 مترا و92 سنتمتراً. وكان يا ما كان في قديم لبنان.
فلندخل في لبّ الموضوع. ليست كل المناقيش مناقيش وليس كل الزعتر زعتراً وليس كل السمسم سمسماً. فالغشّ كان في أوجه في أيام «البحبوحة» فكيف في الأيام العجاف هذه؟ لكن، هل هناك من إثبات؟ راقبوا لون الزعتر تعرفوا وانتبهوا الى «القش» الذي يعبر بين الأضراس، ويشك في «النيرة»، مع كل كدشة تعرفون. والأنكى أن منقوشة الزعتر كما البورصة، مع فارق أن المنقوشة تتأثر بصعود بورصة الأسعار لا في هبوطها. فالمنقوشة، منقوشة الفقير، بخمسة عشر الف ليرة وقد يصل السعر الى عشرين ألفاً أو حتى يتجاوزه. فماذا يمكن بعد أن يقال؟ لكن، هل علينا التسليم أيضا «بالقدر» لجهة سلامة الزعتر؟ تلك هي الحكاية.
سمير بطرس، يملك مطحنة في منطقة عبيدات البترونية، ويملك أيضا كثيراً من المعلومات عن الزعتر الذي ارتفعت أسعاره بشكل أيضا جنوني. فلنسمع حكاية الزعتر من خبير فيه. يقول سمير «في هذا الزمن الذي يبلغ فيه الغش أطنابه والأسعار تحلق، تلجأ أفران كثيرة الى استخدام الزعتر المغشوش، يعني تلغم الزعتر مع حامض الليمون ونكهات البهارات المختلفة والكمون واليانسون، من أجل إعطاء مذاق الزعتر».
مكوّنات الغش
هذا ليس جديداً طبعاً. فالغشّ حصل كثيراً ويحصل، على الأرجح، اليوم. فلنسأل صاحب مطحنة عبيدات عن الزعتر الطبيعي؟ كيف يطحنه؟ كيف يختار المواد الأولية؟ وهل تطلب الأفران هذا النوع من الزعتر؟
يقول بطرس «أن الزعتر الحقيقي هو المشكّل بنسبة 90 في المئة من الزعتر و10 في المئة من السماق والملح والسمسم. يضيف: الزعتر نوعان، صنف «زوباع» ذات ورقة مستديرة، زهرتها بيضاء، تنتشر في الوسط صعوداً. وهناك زعتر ذات الزهرة البنفسجية وموجود على الساحل. نضع مع الزعتر السمسم ونستورده إما من السودان أو من الهند، السمسم الهندي أرخص قليلا من السوداني، سعر الطن السوداني منه 3000 دولار، بعدما كان قبل عام واحد 1600 دولار. تضاعف السعر بالدولار. في حين أن سعر الطن الهندي أقل بنحو 200 دولار».
يحبذ كثيرون إستخدام السمسم السوداني لأن نسبة الزيت فيه عالية ونكهته أقوى.
يُحدثنا بطرس عن الوضع الطبيعي لمكونات المنقوشة. لكن، ماذا عن ما هو غير طبيعي؟ يجيب «هناك الزعتر التجاري الذي يقللون فيه نسبة السمسم على سبيل التوفير ويضيفون الى مكوّنات الزعتر كل ما سهل فرمه ومادة النخالة، التي لا تضرّ، وحامض الليمون، وهو أيضاً غير مضرّ لكنه غشّ، كما يضيفون صبغات حيوانية نباتية ومواد إصطناعية هي ما يُخيفنا عند تناول المنقوشة. ويستطرد بالقول: أيام أبو فاعور (وائل أبو فاعور) إكتشفت أنهم يجولون على الأفران في المنطقة لأن أصحابها تقاطروا لشراء الزعتر من مطحنتنا. إستخدموا يومها الزعتر النظيف. غادر أبو فاعور فغادروا الى غير رجعة».
يعتبر صاحب مطحنة الزعتر أن مبيع المنقوشة بعشرة آلاف يبقى قليلا إذا احتوت على زعتر نظيف لأن كيلوغرام الزعتر الواحد يكفي فقط 100 منقوشة فإذا إشترى صاحب الفرن كيلوغرام الزعتر الواحد بسعر 150 ألف ليرة، يعني تكون كلفة الزعتر وحده 1500 ليرة في كل منقوشة، يضاف إليه سعر العجينة 6500 ليرة ( والبعض يقول إن سعرها 4000 ليرة)، ومازوت ( أو غاز) لصناعة المنقوشة… يعني بالكاد يربح صاحب الفرن ألف ليرة في كل منقوشة. هنا، يعمد كثيرون من أصحاب الأفران، خصوصاً في الأزقة، الى استخدام الزعتر المغشوش كي ترتفع نسبة أرباحهم، متكلين على أن من يأكل منقوشه فيها بهارات لا ينتبه كثيراً الى ما تحتويه. يظن أنه يأكل منقوشة بزعتر وهو يأكل منقوشة بكل ما فاض في المطاحن.
سؤالٌ وجيه: كيف نعرف أن المنقوشة التي بين يدينا طاولها الغش؟
هذا أمر ليس صعباً كثيراً، فلون سطح العجينة يكون شديد السواد، الذي قد نخاله أحيانا زعتراً مضافاً «إكسترا» بينما هو ملونات إكسترا. تكون الصبغة مذابة. كما أن المرء قد يشعر بمذاق القش والنخالة وبحموضة إضافية ناتجة عن حامض الليمون. عندما تنتبهون ستشعرون.
حتى لو فعلتم فلا هم عند دولتنا ولا عند التجار ولا عند الأفران ونستطيع القول ايضا أنه أصبح لا همّ بذلك عند المواطن الذي «يأكل الضرب» أيضاً. فهو يبحث عن الأرخص لا عن الأكثر جودة. ما رأي جمعية حماية المستهلك؟ ما رأي رئيسها زهير برو؟ يجيب «بصراحة، لم تصل إلينا شكاوى غش في الزعتر. ربما يشعر المواطن بأن التقليل من جودة الزعتر يساعد على خفض السعر لهذا لا يتذمر منه ولا يتشكَى. في المقابل، أكثر أنواع الشكاوى التي تردنا هي تزوير في التواريخ «على عينك يا تاجر» لأن البلد فلتان. ويستطرد: سمعنا من قبل عن غش وعن زعتر مخلوط بالنشارة. أما اليوم فأكثر ما نسمع عنه مواد فاسدة على الرغم من أن تواريخها تبدو صحيحة. نسمع عن مواد غذائية عفنة وحبوب «يكزدر» فيها السوس وسبب ذلك أن كثيراً من التجار عمدوا أثناء الدعم الى تخزينها وبيعها اليوم مع تغيير تواريخ صلاحيتها. ويا ليت وزارة الإقتصاد بدل أن تتلهى بالأسعار، وهي تعلم أن علاج هذه الأزمة في مكان آخر، تهتم أكثر بسلامة الغذاء».
تصل الى جمعية حماية المستهلك يوميا بين 75 الى 100 شكوى حول الغلاء والكهرباء. موضوع سلامة الغذاء بات في المرتبة الثانية. اللبنانيون على ما يبدو باتوا يعطون الأسعار الأهمية الأولى لا جودة ما يتناولون وهم من أصبحوا «على الأرض يا حكم». وهذه ظاهرة جديدة في لبنان.
إذا رجعنا قليلا الى الوراء، نتذكر غشّاً في الزعتر حصل عام 2015 حيث تبين وجود قوارض ونشارة وصبغات وحامض الليمون وزعتر مستورد من سوريا في معمل في عرمون أقفل بالشمع الأحمر. بعد أقل من عامين سمعنا عن فستق سوداني في أكياس السمسم وقمح مطحون بدل الزعتر وصبغات في بعورتا. وبين بين نعرف أن «الغش» في أوجه قبل واليوم. فالكل يبحث عن التوفير حتى ولو حصل ذلك على حساب السلامة العامة.
مشروع عزيز
فادي عزيز، شاب من كفرحونة في جزين قرر أن يؤسس مشروع زعتر سماه The Good thymes وبدأ يزرع الزعتر ويصنعه «باب أول» بخلطات متنوعة شهية وفاكهة مجففة. انطلق كهواية وكم سمع من يتحدث عن الزعتر الفلسطيني والحلبي ويتناسى أن الزعتر اللبناني لا يعلو عليه. فقرر تحويل الهواية الى احتراف، كما حوّل الزعتر من مجرد «أكلة شعبية» الى خيار كل الطبقات وبينها طبعا الميسورة.
جميلٌ أن نسمع بمبادرات شباب يتعاملون مع «شتول» برية. لكن، ألم يكبد ما يقومون به مبالغ إضافية في زمن يبحث فيه الناس عن التوفير بأي شكل ممكن؟ يجيب عزيز: «صحيح أننا خسرنا بعض الزبائن لكننا ربحنا أيضا زبائن، فنحن نُصدّر حالياً الى ثماني دول» يضيف: «قبل أن أنطلق بشغفي، وتحويل مزرعة قديمة في كفرحونة الى مشروع زعتر ناجح، زرتُ كثيراً من المصانع في لبنان، تقوم بإنزال منتوجاتها الى الأفران الصغيرة، واكتشفتُ عدم وجود أي معايير فيها. لم أستوعب أبدا أسلوب التعامل مع صناعة الزعتر. رأيت العمال يدعسون على الزعتر ويطحنونه مع نفاياته. هذا القطاع دقيق جداً وليس كل زعتر زعتراً».
أيها اللبنانيون، حتى المنقوشة حرمتم، أو تكادون أن تُحرموا، منها. فسعرها نار وسلامة موادها على المحك. والحلّ؟ إرتفع عدد اللبنانيين الذين يطحنون الزعتر بأنفسهم. صحيح أن مونة الزعتر تعدّ في تموز وآب وأيلول. لكن ما يحصل اليوم، أن المواطنين ممن زرعوا الزعتر يجففونه ويطحنونه على دفعات. كل ثلاثة أشهر دفعة. كي لا يتكبدوا ثمن ذلك «دفعة واحدة» وكي يتناولوا زعتراً غير مغشوش. وهنا نصيحة من إبن مصلحة: لا تحمّصوا السمسم وترموه ساخنا فوق الزعتر كي لا «يمرمر». والنصيحة بجمل.