توحي لوحةُ الحراك السياسي والعسكري المزدحم الآن وعلى مختلف الجبهات، أنّ أموراً مفصليّة في طريقها للتحوّل وقائع، ينبغي التمعّن في قراءتها جيداً.
كان لافتاً التناغم الأميركي ـ الإيراني في اليومين الماضيين، سواء في الموقف من خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أمام الكونغرس، أو من المعارك الحاصلة على أرض العراق، ما حدا ببعض المراقبين الى القول إنّ «طبخة» الملف النووي قد شارفت على النضوج.
في المقابل، توقفت أوساط ديبلوماسية عربية في واشنطن أمام الحدثين، واشارت الى أنّ ترجمة خطاب نتانياهو ستجد صداها في القضية الفلسطينية، مستدلّة بذلك الى لهجته وتكراره مرات عدّة عبارة «الدولة اليهودية»، وتوقعت أن يكون الثمن الذي سيناله مزيداً من إطلاق يد إسرائيل في شطب الحيثيّة الوطنية الفلسطينية.
ليس صدفة أن يغيب عن خطابه «طرح بديل» للآلية التي تجرى من خلالها المفاوضات النووية مع إيران. فإبعاد «الخطر الوجودي» من إسرائيل تضمنه الولايات المتحدة والغرب كله، فيما غضّ النظر عن مسار نووي إيراني لعشر سنوات على الأقل، لا يعوّضه سوى إنهاء أيّ حديث عن خيار الدولتين: إسرائيل وفلسطين.
حتى الكلام عن مظلّة حماية نووية أميركية لدول الخليج، لا يعدو كونه استثماراً في لحظة إقليمية بالغة الحساسية، مع محاولة إظهار أنّ النزاع الرئيس في المنطقة، هو من الآن فصاعداً بين العرب والإيرانيين، «بعدما تكفل نتانياهو بالدفاع عن العرب والسنّة بشكلٍ خاص، في مواجهة القضم الإيراني لدولهم»!
غير أنّ هناك مَن يحذّر من أنّ الإندفاعة الإيرانية المتسارعة في هذه المرحلة، تعكس توهّم طهران بقدرتها على الفوز بحصة، لا تسوغها قدراتها الذاتية ولا الموضوعية حتى ولو شدّت الحزام على مواطنيها وطلبت تقليل موائدهم، في وقت تكشف تجارب قوى إقليمية ودولية اكبر منها بكثير أنّ الامر ليس بهذه البساطة.
فإذا كانت طهران ترغب بمقايضة توقيع ملفّها النووي بدورها الإقليمي في العراق واليمن، فمِن نافل القول إنّ محاولاتها هذه ستصطدم بمتضرّرين كثر، قبل الحديث عن الدور الأميركي في توزيع «الحصص».
معركة الخلاص من «داعش» في العراق لا يمكن استبدالها بتجديد الهيمنة الإيرانية عليه مرة أخرى، والواقع الميداني لا يوحي أنّ خيار الدولة الفيدرالية المثلّثة الأضلاع بين الشيعة والسنّة والأكراد قد استبعد.
وتتساءل تلك الأوساط: «هل إنّ الامر تورّط إيراني أم توريط لايران، ما قد يجعل من تلك الحرب جرحاً نازفاً لا أفق منظوراً لها، على رغم ادعاءات طهران بقدرتها على حسم الامور في العراق مجدّداً؟ ولو كان الامر كذلك، فلماذا انهار البنيان الذي بدأته عام 2006 وبلغ ذروته مع انسحاب الاميركيين عام 2011 لينهار في صيف 2014 مع سقوط مدينة الموصل؟
وهل ما تعتبره إيران إطلاقاً ليدها في المنطقة سيبقى بلا ردّ عربي خصوصاً خليجي؟ وهل سيجرى القبول بسقوط سنّة العراق سواء قضي على «داعش» أم لا؟
الرياض التي استقبلت قبل أيام زعماء أكبر ثلاث دول عربية وإسلامية: مصر وتركيا وباكستان، لا يبدو أنها بلا أدوات، وهي ترسل رسائل مباشرة الى إيران.
لكن هل معارك «تكريت» هي النموذج الذي تسعى طهران من خلاله الى تجديد «إستبعاد» واشنطن مجدّداً، او على الاقل الى جعلها لاعباً صغيراً فيه؟ وماذا عن بدء شيوع أنباء المجازر والإرتكابات التي تنفّذها ميليشياتها هذه الايام؟
التناغم الأميركي ـ الإيراني لم يتأخر في العودة الى لغة التحذير. فبعد يوم واحد من تقييمه الإيجابي لدور إيران في المعارك ضدّ «داعش»، تخوّف وزير الدفاع آشتون كارتر من فتنة طائفية في العراق، فيما أعلن رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية مارتن دمبسي استعداده لإرسال قوات خاصة لدعم القوات العراقية والسورية «الجديدة»، في إشارة الى المعارضة المعتدلة، اذا إرتأى القادة الميدانيون الأميركيون ذلك.
هذا الامر اعتُبر رداً على كلام وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي أمام ضيفه التركي عصمت يلماز عندما قال في بغداد «إنّ معركة الموصل ستُجرى بإدارة وأدوات وقوات عراقية خالصة».