مهمة تيلرسون تكشف إرباك المساكنة بين الدولة و«حزب الله»!
تباينات أميركية سبقت الزيارة.. والأهم «حضّ لبنان على التنبّه من خطورة اللعب بالنار»
هل الخرق البروتوكولي رسالة استراتيجية من طهران إلى واشنطن عبر بيروت؟
تكشف زيارة وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون إلى لبنان أكثر فأكثر الواقع اللبناني المُعقّد. يقول من السراي الكبير إنه «من المستحيل التحدّث عن الاستقرار والسيادة والأمن في لبنان من دون معالجة مسألة «حزب الله» الذي تعتبره الولايات الأميركية منظمة إرهابية منذ عقدين من الزمن، ولا تفرّق بين ذراعيه العسكري والسياسي، وترى أنه من غير المقبول لميليشيات كـ «حزب الله» أن تتصرّف خارج إطار سلطة القانون والحكومة اللبنانية». يقول تيلرسون هذا الكلام وإلى جانبه رئيس الحكومة الذي لا ينبس ببنت شفة، فيما حكومته تضم وزراء من «حزب الله». صحيح أن الموقف الأميركي ليس جديداً، والرئيس الأميركي دونالد ترامب سبق أن قال كلاماً مشابهاً أمام الحريري نفسه، إنما من أمام البيت الأبيض في دياره وليس من الديار اللبنانية وبهذا الوضوح.
الواقع اللبناني المُعقّد يتجلّى أكثر فأكثر في البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية، حيث تضمّن تأكيد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون «التزام لبنان بتجفيف الموارد المالية للمنظمات الإرهابية والتزام الإجراءات المعتمدة، على ألا يؤدي هذا الأمر إلى الإضرار به وباقتصاده، لا سيما وأن أضراراً لحقت بلبنان بعدما تخوّف المغتربون والمستثمرون من بعض هذه الإجراءات». هنا الكلام لا يستهدف تجفيف مصادر تمويل تنظيم «داعش», فما هو مطروح وقيد البحث يتناول كيفية تجنيب الاقتصاد اللبناني تداعيات العقوبات المالية على «حزب الله»، والمخاطر التي يمكن أن تطال المصارف إذا تعرضت هي الأخرى للملاحقة والعقوبات في حال خرقت القانون الأميركي أو اللوائح السوداء لوزارة الخزانة الأميركية التي تتضمن الكيانات والأسماء المحظر التعامل معها.
إنها ببساطة مظاهر تنمّ عن الإرباك الرسمي اللبناني، وعن المساكنة اللبنانية بين الشرعية واللاشرعية والقانون واللاقانون والدولة واللادولة. فحتى الخرق البروتوكولي الذي تجلّى بمشهد انتظار تيلرسون لنظيره جبران باسيل ولرئيس الجمهورية لدقائق طويلة وحيداً، والذي كانت تنقله محطات التلفزة مباشرة، يُجسّد مدى انهيار المنطق المؤسساتي، بغض النظر عن الرسالة التي أريد إيصالها للضيف! والتوضيح الذي قدمه القصر الجمهوري بأن لا خطأ بروتوكولياً، بل إن الوزير الضيف وصل قبل دقائق من الموعد المحدّد، ينطوي هو الآخر على كثير من السخرية التي تفاقم من الصورة الهشة للدولة.
على أنه قد يكون من المبكر الجزم بأن الخرق كان «رسالة استراتيجية قادمة من طهران إلى واشنطن عبر بيروت لأن الدولة في بيروت تنفذ ما تريده طهران»، وفق ما قرأه بالأمس الخبير في السياسة الأميركية وليد فارس، ذلك أن هذا التحليل لا يستقيم كثيراً مع «الجملة اللغز» في الخبر الرسمي الموزّع عن اللقاء، وإن كان يستقيم مع حقيقة أن القرار الاستراتيجي للأمن القومي اللبناني ليس في بيروت ولا بيد مَن التقاهم تيلرسون, بل في طهران وبيد مَن لم يتلق بهم من حلفائها هنا. وفي المعلومات، أنه كان هناك نقاش في الإدارة الأميركية حول الفائدة من زيارة الوزير الأميركي إلى لبنان بين معارضين للزيارة بحجة أن المسؤولين اللبنانيين لا يمتلكون القرار وبين متحمسين للزيارة من الطاقم القديم في الخارجية على غرار نائب مساعد وزير الخارجية دايفيد ساترفيليد، الذي يعتبر أن الزيارة تشكل عنصراً داعماً للجيش اللبناني الذي تراهن عليه واشنطن كركيزة أولى لإمكانية بسط الشرعية سلطتها الكاملة على الأرض، كما أنها تشكل عامل دفع لحل الخلاف النفطي مع إسرائيل، حيث للوزير الأميركي باع طويل في هذا المجال، جرّاء خبرته السابقة في مجال الطاقة وعمله في «مجموعة إكسون موبيل» وإدراكه لكيفية حل مثل هذه الخلافات.
لكن ثمة اعتقاداً لدى بعض المراقبين حول الخرق البروتوكولي لا يصل إلى حدود الرسائل الـ «فوق لبنانية» بقدر ما هي «رسائل عونية» تتعلق بالتعامل الأميركي مع عون وباسيل من منطلق النظرة الأميركية للسياسة التي انتهجها «التيار الوطني الحر» كحيلف لمحور طهران – دمشق – حارة حريك، والذي انعكس على طريقة التعامل مع الرئيس اللبناني خلال مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، إذ لم يحظ بلقاء خاص مع نظيره الأميركي، وكذلك انعكس على طريقة التعامل مع باسيل خلال زيارته لواشنطن.
وبعيداً عن «الرسالة ومغزاها»، فإن جانباً من الزيارة يأتي في إطار حض لبنان على التنبه من خطورة «اللعب بالنار» في هذا التوقيت الدقيق، حيث تُرسم بالدماء، ليس الخرائط والحدود التي لن يطالها أي تبديل، بل مواقع نفوذ اللاعبين الكبار وطبيعة الأنظمة التي ستحكم مستقبلاً، وطبيعة الحلفاء.
المسؤولون الأميركيون لا يخفون أن الضغوطات على «حزب الله» هي جزء من استراتيجية الإدارة الحالية، بما يشكله هذا الحزب من ذراع عسكرية أساسية لإيران في المنطقة، ووجوده الجغرافي عند الحدود اللبنانية مع إسرائيل، ومحاولة خلق وضع مشابه لذلك على الحدود السورية – الإسرائيلية من ضمن استراتيجية طهران في المنطقة، وهي ضغوطات ستشتدّ عليه عسكرياً في الساحة السورية التي تحوّلت إلى مسرح للاشتباك الأميركي – الروسي والأميركي – الإيراني، كما ستشتدّ عليه مالياً من خلال العقوبات وملاحقة مصادر تمويله الخارجية.
غير أن التصريحات الأميركية عموماً، بما فيها تصريحات تيلرسون في بيروت أمس، والتي تدعو «حزب الله» إلى أن يتوقف عن أنشطته في الخارج، ورفض أن يكون ميليشيا تتصرّف خارج سلطة الدولة، تعني أن واشنطن تريد «إعادة تأهيل حزب الله» ليكون حزباً سياسياً صرفاً، من منطلق إقرارها بأنه جزء من النسيج اللبناني ومن العملية السياسية في لبنان. «إعادة تأهيل» تُشكّل تجسيداً للمعضلة التي يعيشها لبنان، والتي تُشكّل قناعة راسخة لدى الأطياف السياسية الداخلية على مختلف مشاربها ولدى كثير من الدول الغربية، بأنه يستحيل بناء الدولة مع «حزب الله»، ويستحيل بناؤها من دونه!