ما يحصل على الأرض في سوريا هذه الأيام يلفت النظر أكثر من المعتاد: تحكي الآلة الممانعة عن مراكمة الاستعدادات عند بقايا سلطة الأسد لاسترداد إدلب، فيأتي الخبر اليقين أن المعارضة المسلحة تفتتح ثغرات كبيرة في جسر الشغور وتستمر في التقدم في عموم الشمال على رغم الإنهاك الذي كاد أن يكون مدمّراً لها نتيجة الاختراق الداعشي العجيب!
والحال نفسه في الجنوب السوري: «حرّرت» بقايا السلطة وأتباعها بعض القرى فكان إعلان ذلك شبيهاً الى حدّ ما بإعلان الماريشال جوكوف تحرير برلين في خواتيم الحرب العالمية الثانية.. مع رمي خبريات وتسريب كميات لا يُستهان بها من المعلومات «الموثوقة» بأن الاستعدادات لاستكمال مسيرة «التحرير» من بصرى الشام الى القلمون قد اكتملت، فإذ بجهينة تأتي بالخبر اليقين: المعارضة تتقدم وتبطش بالسلطة و«داعش» وصولاً الى جوبر وبعض المناطق الحساسة في شرق العاصمة!
ودلالات ذلك في الإجمال (النكبوي بكل حال) هي أن الزمن صار عدو الممانعة ولم يعد عدّتها الفضلى! كان أمضى أسلحتها. تراهن عليه لإرهاق الأخصام والأعداء ودفعهم الى التراخي أو اليأس أو الملل أو التسليم بالقدر السلطوي الممانع دائماً وأبداً.. لكنه اليوم صار هو ذاته، رديفاً للعد العكسي لاكتمال ضمورها واندثارها: كلما تقدم ذلك الزمن، تراكمت خسائر الأسد وأتباعه أكثر فأكثر وأخذ الاستنزاف حصته الكبيرة منهم.. ونظرة سريعة إلى الخارطة الميدانية تظهر تلك الحقائق وتبين حجم التغيير الحاصل، وصولاً الى نقل صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» الأميركية عن عارفين ومطّلعين موثوقين تأكيدهم أن نسبة السيطرة الأسدية الممانعة تراجعت إلى 25 في المئة من مجمل الجغرافيا السورية.
وذلك الواقع أمر أليف، وصحبته مع المنطق عروة وثقى مثل صحبة البحر مع الملح والأمان مع المطمئن واليقين مع المؤمن: الثورة السورية، رغم كل ما مرّ عليها ومرّت به، هي ثورة حقيقية وليست شغل عصابات. وأيًّا كان مسارها ومآلها فهي كسرت النظام الفئوي البعثي المافيوي وجعلته غير قابل للتلحيم أو الوقوف على قدميه مجدداً.. بل حوّلته الى جثة سياسية انتقلت معظم وظائفه الى أطباء روس وإيرانيين، لا يزالون يصرّون على إبقاء أجهزة الإنعاش شغّالة للإيحاء بأنه لا يزال حيًّا.. وبكلفة هائلة!
يصحّ الافتراض أن المرحلة المقبلة ستشهد المزيد من الضراوة والاستشراس في هذه النكبة. ويصح الافتراض الموازي في الوقت نفسه، بأن ذلك لن يعني سوى شيءٍ واحدٍ هو تأكيد اندثار النظام السابق وبدء عملية البحث الجدي (أخيراً!) في ترتيب «الحل» السوري، من دون الأسد وبطانته!