مع حركاتِ الاحتجاجِ الشعبيّ في المدنِ الأميركية، يجوز السؤال: هل بَلغَ «الربيعُ العربي» الولاياتِ المتحدةَ الأميركية؟
مع بدايةِ عهدِ ترامب، يسأل الجميعُ ما هي سياسةُ أميركا الجديدة تجاه الشرق الأوسط ولبنان؛ ولا مَن يَسأل ما هي سياستُنا تجاه أميركا. مَهلاً، لا تَسخَروا. ليس في السؤال غرورٌ، بل حدٌّ أدنى من الكرامةِ الوطنية. إن تاريخَ العالم صنعته دولٌ كانت مدناً صغيرة (بابل، أورشليم، أثينا، سبارطه، روما، قرطاجة، بيبلوس، صور).
واليوم، هناك دولٌ صغيرة تَلعب أدواراً دولية مِثلَ عُمان، قطر، كوبا، النمسا، سويسرا، اللوكسمبورغ، سنغافورة، وغيرها. تجاه القانونِ الدولي تتساوى جميع الدول لكنها تتمايز بأدوارها فيَبرزُ الفارقُ في الوزن والقيمة. إن أكثرَ من نصفِ الدولِ الأعضاء في الأمم المتحدة (105 على 193) هي دولٌ صغيرة.
لذلك يُفترض بكل الدول، وبالصغيرةِ تحديداً ومن بينِها لبنان، ألّا تَستصغِرَ أدوراهَا فتحترمُ نفسَها وتضع استراتيجيةً خاصة بها وتوحِّد قرارَها. لكن لا أظن أن دولةَ لبنان فكّرت بهذه الأمور، فهي تخوض الآن حرباً ضد طيورِ النَورَس. ربما تكون إيران وإسرائيل الدولتين الوحيدتين اللتين في المنطقة وَضعتا خططاً استباقيةً للتعاطي مع العهد الأميركي الجديد.
أما نحن فننتظر أيَّ مسؤولٍ أميركيٍّ يأتينا بتطمينات أو توجيهات أو تحذيرات، ونعيش على وَقْعِ الموفدين كما تعيش النباتاتُ البَريّةُ على وَقْعِ الفصول حالياً، لا توجد سياسةٌ أميركية مستقلةٌ تجاه لبنان. هو جزء من ملفِّ الشرق الأوسط الكبير وتتابعه من تامبا – فلوريدا القيادةُ المركزية العسكرية CENTCOM التي تضم، إلى لبنان، 27 دولةً عربيةً وفارسية وآسيوية وأفريقية.
غير أن واشنطن تراجع دورياً أولوياتِها في الشرق الأوسط حسْب تطورِ وضعية كلِّ دولة ونجاحِها في تحصين ذاتها وتقديمِ نفسِها شريكاً أو عاملاً مفيداً يساهم في تعزيز الاستراتيجية الأميركية والسلم الدولي.
رغم ذلك، يبقى لبنان مصدرَ اهتمامِ الولايات المتحدة، وإلا لما كانت خصّصت مليارَ دولارٍ لبناء سفارتها الجديدة في عوكر. ويعود ذلك للأسباب التالية:
1) النظامُ الديمقراطي الليبرالي التعددي.
2) وجودُ لبنان على تخومِ إسرائيل حليفةِ أميركا، وسوريا خصمِها.
3) مصيرُ تنفيذِ القرارات الدولية لاسيما القراراتُ 1559، 1860 و1701 ذاتُ الصلة بالأمن اللبناني والإقليمي.
4) كونُ لبنان ملتقى صراعاتِ الشرق الأوسط.
5) النظامُ المصرفي اللبناني ودورُه الوسيط والرقابي.
6) الرهان على الجيش اللبناني من خلال برامجِ تدريبه وتسليحه.
7) رصدُ حزبِ الله والحؤولُ دون سقوطِ لبنان أكثر فأكثر تحت النفوذِ الإيراني فالروسي.
8) القلقُ من تنامي الحركاتِ المتطرّفة وانتشارِ البؤرِ الارهابية في ربوعه.
9) ارتداداتُ الحلِ النهائي للقضيةِ الفلسطينية عليه (نصفُ مليونِ لاجئٍ على أرضه) وللحربِ السورية (مليونٌ ونصفُ مليونِ نازح).
10) وجودُ ثروةٍ نفطيةٍ وغازيةٍ واعدة في بحر لبنان.
11) وجودُ أكثرَ من مليوني أميركي من أصلٍ لبناني.
12) انتشارُ الجامعة الأميركية وسائرِ المؤسسات التعليمية الأنكلو – سكسونية في لبنان.
13) الوجودُ المسيحيّ كآخرِ علامةٍ على المسيحيةِ الناشطةِ في الشرق الأوسط. إلخ…
إذن، لبنانُ قادرٌ على إيجادِ مساحةٍ محترَمةٍ لدى الإدارة الأميركية الجديدة. يكفي أن يعيدَ صقلَ قضيةٍ لبنانية مستقلة عن قضايا المنطقة، جوهرُها
الحفاظُ على الديمقراطيةِ والحرية والأمن والثقافة، أي الخصوصيةِ اللبنانية التي كان يُفترض أن تُعمَّمَ على الشرقِ بأسره لو كان الربيعُ العربي ربيعاً. من ليس له قضيةٌ ليس له سياسة.
إن القضيةَ اللبنانية هي الأقدمُ في الشرق. كانت المدائنُ الفينيقية القائمةُ على التجارة والانفتاح تصارع ممالكَ الحرب والاجتياح، ثم كانت إمارةُ جبل لبنان الحريصةُ على الحكمِ الذاتي والحرية تقاوم دولَ الفتوحاتِ والاحتلال، ثم كانت دولةُ لبنان الكبير المتميِّزةُ بالاستقلال والتعايش تواجِه مشاريعَ الوصاية والأحادية والهويات البديلة. كانت ديبلوماسية الإمارة والدولة تجوب العالم كما تجوب السفن الفينيقية البحار، فصانت قضية لبنان واستقلاله.
حين نطرح قضيةَ لبنان التاريخية ذاتَ البعدِ المستقبلي، تبدأ عمليةُ استنباطِ وسائلِ التأثير اللبناني في أميركا وهي كثيرة:
1) الشخصيات اللبنانية -الأميركية القريبةُ من الرئيس وأركانه.
2) تَجذّر الجاليةِ اللبنانية في الولايات المتحدة الأميركية.
3) تعزيزُ طاقمِ السفارةِ اللبنانية في واشنطن بمجموعةٍ نُخبوية وديبلوماسية لتُقيمَ شبكةَ علاقاتٍ بمختلف الإدارات.
4) تطويرُ العلاقةِ الديبلوماسية مع سفارة أميركا في لبنان فتتعدى لقاءاتِ المناسبات إلى التشاورِ المؤسساتي المنتظِم.
5) فتحُ علاقاتٍ ثابتةٍ مع مراكزِ الدراساتِ الأميركية التي تحضِّر سياساتِ الإداراتِ الأميركية وتسوِّقها.
6) وضعُ تصورٍ لبناني للسياسية الأميركية في الشرق الأوسط يُرفع إلى المسؤولين الجدد.
7) تقديمُ خطةٍ متكامِلة لمكافحة الارهاب مبنيةٍ على تجربة المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية.
8) تقديمُ مقترحاتٍ عملية لحل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي يَشمل رفضَ التوطين.
9) استجماعُ الطاقات اللبنانية العلمية التي تؤثر في العالم على مصير البشرية ليصبحَ لبنان مشاركاً في برنامج دوليٍّ كوني وهذا ما يعرف بالديبلوماسية العلمية. إلخ…
إن مثلَ هذا التحركِ الاستراتيجي يتطلب وجودَ دولة لبنانيةٍ تَملِك قرارَها المستقل في السياستين الخارجيةِ والدفاعية والقدرةَ على بسطِ سلطتِها على كامل أراضيها وعلى مكوّناتِ شعبها. ليست مشكلةُ لبنان بأنه بلدٌ صغير إنما في أنه بلدٌ ضعيفٌ يفتقر إلى السيادة الداخلية قبل الخارجية.
أين الدولةُ اللبنانية من القضيةِ اللبنانية. ذوّبنا قضيتَنا بولاءاتنا الخارجية فأصبحنا مقطورةً بعدما كنا قاطرة، ودخلنا عالمَ الانحطاطِ بعدما كنا رمزَ النهضةِ. لذلك إن الحديثَ عن سياسةِ لبنان تجاه أميركا هو حلمُ مواطنٍ من الزمن البشيري، زمنِ القضية اللبنانية. زمنٌ كان لبنانُ محورَ الاستراتيجيةِ الأميركية في الشرق الأوسط.