Site icon IMLebanon

زمنٌ ندرَ فيه الرجال

مَن يكتب بدمه ليس كمَن يكتب بحبر قلمه. ومهما علا صوت الرصاص لا يمكنه أن يعلو فوق صوت الحقّ.

أشهُرٌ، والجيش يرسم بدمه من عرسال إلى طرابلس والشمال الخطوطَ الحمر على الحدود، وفي الأمن والاستقرار. وكلّما سقط له شهيد ازداد صلابةً وإصراراً على البرّ بقسَمه والدفاع عن أهله وناسه.

لا بطولة لجيش في العالم، ما لم تكن قيادته عصيّة على التحديات، عنيدة في الوطنية والمُسَلّمات. لا يقاتل جنديّ ما لم يرَ قيادته أكثر منه حماسةً وشجاعة للقتال، والقيادات تُمتحَن في الملمّات والأزمات.

هناك مَن كان تنفّسَ الصَعداء بأنّ معركة عرسال أنهَت حظوظ العماد جان قهوجي الرئاسية، لأنّ انتقادات سياسية-إعلامية صدرَت من وسط 8 آذار على خلفية امتناع قائد الجيش عن اللحاق بالإرهابيين للحسم.

ولكنّ قهوجي لم يتعامل يوماً مع أيّ استحقاق وطني-عسكري من زاوية تعزيز رصيده الرئاسي، إنّما حرصَ في عرسال، كما في غيرها، على التزام قسَمِه العسكري، وموقف السلطة السياسية، وحماية المدنيين، والفصل بين عرسال والجرود من دون إدخال الجيش في مواجهة مفتوحة تستنزفه وتلهيه عن سابق تصوّر وتصميم من أجل الالتفاف عليه في الداخل.

وقد أظهرَت الوقائع لاحقاً صحّة ما ذهب إليه. فالاعتراضات تراجعت، والإشادات تقدّمت محلياً وعربياً ودولياً، وأثنَت على حكمته في التعاطي مع الأحداث والتطورات، إذ إنّه كان في استطاعته أن يضع ألف شهيد للجيش مقابل زعامته ورئاسته، ولكنّه امتنع مبدّياً مصلحة الوطن والدولة والجيش على أيّ اعتبار آخر.

من عرسال إلى طرابلس والشمال، تلقّى الجيش رصاصَ الإرهاب في صدره، وحملاتِ التحريض والتشكيك والطعن في ظهره.

لم يتراجع ولن يتراجع، لأنّ قيادته تعي تماماً أن لا أنصاف حلول في هذه المعركة، فإمّا أن ينتصر الجيش فتنتصر الدولة، وإمّا أن ينتصر الإرهابيون فتسقط الدولة، خصوصاً في هذا الزمن الصعب، حيث يُعاد رسم خريطة دول المنطقة سياسياً وجغرافياً بالدم والدموع.

من عرسال إلى طرابلس والشمال ظهرَت حقائق كثيرة، أبرزُها ما يتعلّق بأسلوب القيادة وثقافة الانتصار. فقائد الجيش لم ينفّذ أجندةً سُنّية لإرضاء «المستقبل»، ولا أجندة شيعية لإرضاء «حزب الله»، بل تصرّفَ بوحي ضميره والتزامه العسكري وحِرصه على سيادة لبنان واستقلاله.

بَرهنَ العماد قهوجي عن صلابةٍ في المواجهة. لا هو اهتزَّ بفعل العاصفة الإرهابية والضربات الأولى المباغِتة في عرسال وطرابلس، ولا سمحَ للعسكر على الأرض بالاهتزاز.

بدا صبوراً، في المعركة العسكرية والنفسية، والصبر مفتاحٌ من مفاتيح الحكمة وبابٌ من أبواب الفرج، اشتهر به كبار الحُكماء وأعظم الحكّام عبر التاريخ.

غالبَ حماستَه ولم يأتِ بخطوة تحت ضغط أو ردّ فعل. لم يُنصت إلّا لصوت العقل، ولم يحسب إلّا حساب الميدان. وما كان له هَمٌّ سوى الحرص على أرواح المدنيين وممتلكاتهم.

عرف كيف يتخذ القرار، وأجاد في توقيته وحدوده وسط ألغام الانقسامات السياسية والمذهبية. لا تسرُّع ولا تهوُّر. لا مساومة ولا تراجُع. «لن نسمح بسقوط أيّ مدينة أو حيّ أو شارع في يد الإرهابيين».

هذا سلوك رجل دولة. صمتُه أبلغُ من ألف خطاب. لا ثرثرة ولا ردّ على «الثراثرة». منفتح على كلّ القوى السياسية اللبنانية في أيّ حوار يخدم سيادة لبنان وأمنه واستقراره وحرّياته، ومعانِد لأيّ تطرّف وأيّ حوار مع قاطعي الرؤوس ومهووسي إراقة الدماء، فالإرهاب عنده سرطان لا يحاوَر ولا يعالَج بكلمةٍ سواء، وإنّما بالاستئصال.

هذا الأداء استجلبَ ثقةً دولية وعربية بقيادة قهوجي، وليس تفصيلاً أنّ تسليحَ الجيش استثنائياً سيحصل في عهده، وأنّ هذه الخطوة سترفع من منسوب معنويات الجيش وتزيد ثقته بنفسه. ولولا الثقة بشخص قهوجي لما كان تسليحٌ ولا مَن يحزنون.

إن جيشاً يقف خلفه قائد متماسك من هذه الخامة، لا يعرف هزيمة. وما الانتصار على الإرهاب في الزاهرية والأسواق وباب التبانة في طرابلس إلّا وسامٌ على صدر كلّ ضابط وجندي وشهيد. إنّه زمنُ الأوسمة يطلّ قاهراً الإرهاب، وزمنُ الوفاء لمَن كان وفيّاً للبنان. إنّه زمنُ الرجال في وقتٍ ندرَ فيه الرجال.