يشبه اتهام روسيا للمعارضة السورية بـ«تخريب» مفاوضات جنيف، اتهام رئيس سوريا السابق بشار الأسد الأكراد بـ«الخيانة»، والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بـ«دعم الإرهاب».. مثلما يشبه نعت بنيامين نتنياهو الأمم المتحدة بـ«إنها بيت الأكاذيب»، واعتراف دونالد ترامب بالقدس «عاصمة لإسرائيل» ثمّ توعّده بمعاقبة الدول التي ستصوّت ضدّ ذلك القرار في الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
وينسحب التشبيه المنسلّ من التخريف والدّال على مدى غرابة هذا الزمن ومقدار العبث الذي يحرّك أصحاب قرارات تتعلق بمصائر واستقرار وثروات شعوب وأمم، على حديث الجماعة الإيرانية المستدام عن «إنجازاتها» في بلاد العرب والمسلمين (وهي التي لم تحرّر شبراً واحداً من فلسطين) أو اتهامها السعودية بـ«دعم الإرهاب»، أو إظهارها التأسّي والتفجُّع على شعب اليمن المنكوب! أو حديث الجماعة الحوثية عن «المقاومة»؟!
في المأثور المتداول عموماً، ربطٌ مُحكم بين سريان القول والفعل على هوى صاحبه، وقلّة الذوق وانعدام الحياء. لكن يُضاف إلى هذه المثلبة، أن صاحب القول الوقح والفعل الشنيع، يستند إلى قوّة «متفرعنة» تأخذ مداها وكامل صداها تبعاً لحسابات لا علاقة لها تماماً، وفي المحصلة، بقدراته الذاتية بقدر ما هي وليدة مناورات وسياسات، كان يُفترض أن تكون مضادّة لكنها تمنّعت أو انكفأت أو تراخت بما سمح للخفيف أن يظهر ثقيلاً. والضعيف أن يبدو قوياً. والضحل أن يبدو عميقاً. والمعتدي أن يبدو مدافعاً! والمرتكب أن يبدو ضحيّة. والسفّاح أن يبدو بريئاً. والتاجر أن يبدو «مناضلاً» (مع أن التجارة ليست عيباً!) والخائن أن يبدو ديّاناً. والانتهازي أن يبدو مبدئياً. والاستبدادي أن يبدو ديموقراطياً. والمخرِّب أن يبدو مُصلحاً. والمدمّر أن يبدو بنّاءً. والغشيم أن يبدو فيلسوفاً. والمتوحّش أن يبدو إنسانياً. والمتطرّف أن يبدو معتدلاً. وراعي الإرهاب أن يبدو محارباً ضدّه. والمتزمّت المنغلق أن يبدو ليبرالياً منفتحاً. والقاتل أن يبدو قتيلاً. والظالم أن يبدو مظلوماً. والجبان أن يبدو شجاعاً. والمذهبي أن يبدو إسلامياً. والساعي إلى الشرّ في الأرض أن يبدو داعياً ومبشّراً. والظلامي أن يبدو تنويرياً. وصاحب العلّة أن يبدو معالجاً. والمهرّج أن يبدو حكيماً. والغاصِبْ أن يبدو مّحرِّراً. والجائر أن يبدو عادلاً..
كأن من مفارقات الحداثة أن تُعتمد تقنياتها لتسويق النكوص عن الذوق العام والحسّ الجماعي المشاع ومقتضيات الحكمة، وليس العكس.. وأن يُصار إلى استخدام آليات الذكاء الصناعي لتعميم الغباء وتشويه محفّزات الذكاء البشري. وأن يُعاد الاعتبار لقيم غرائزية أساسها العنف والقوّة والإخضاع والقهر وثقافة الاستباحة المُباحة، ثم أن يعمّ التزوير ويشيع ويأخذ مكان الحقيقة..
كان يمكن التفرُّج بحبور أكيد على كل هذا الابتذال لو اقتصر أمره على المسْرَحَة في السياسة والإعلام، ولكن الخطب جلل والدمّ واصل إلى الرُكب، وكثرة الموت صارت «مُوتان» على قولة ابن خلدون.. وعلامات «الساعة» تتراكم، ومنها أن يتحدّث بشار الأسد عن الخيانة. ويحكي الحوثي عن «المقاومة». وترطن الجماعة الإيرانية بـ«الإنجازات الإلهية».. ويصير ترامب رئيساً لأميركا، وبوتين محرّراً للشعوب.. وأي زمن؟!