قد لا تكون مصادفة عبثية، أن يدخل وليد جنبلاط قاعة المحكمة الدولية في لاهاي زعيماً أوحد للمختارة، ويخرج منها متتماً إجراءات التوريث السياسي المبكر لنجله تيمور.
حتماً، المسألة ليست ابنة ساعتها، ولا هي قرار انفعالي جرّته اليه الشهادة من على المنبر الدولي، بسبب ما رافقها من تعليقات نقدية بفعل إرباك الشاهد أولاً وتلعثمه السياسي ثانياً، وتقلباته التي سلّط الدفاع الضوء عليها ثالثاً…
فالرجل يحاول منذ فترة التخلص والتملص من أعباء النيابة لنقل العباءة الى كتفي تيمور وحشره «رسمياً» في زواريب الاهتمامات الشعبية والاجتماعية، قبل أن يضع رجليه بثبات على سكة الزعامة الجنــبلاطية. ولكن ثمة قراراً اتخذ خلال الساعات الأخيرة يعلن انطلاق «القطار التيموري»، ولو من دون لقب رسمي..
لا يحتاج الشاب للوحة الزرقاء أو لمقعد في البرلمان كي يقصّ شريط دخوله المعترك السياسي. يكفي أن يجلس على كرسي المختارة كي يصير «بيك»، بتوقيع مريدي الزعامة الجنبلاطية و «بصمتهم على العمياني»، فيغرق في النظام «الكاره» له.
هكذا لم ينتظر والده الضوء الأخضر من صديقه رئيس المجلس نبيه بري كي يتلو استقالة خطية، كُتبت بيده من فترة، يسلّم بواسطتها الأمانة البرلمانية لنجله عن طريق صناديق الاقتراع. فبإمكان النظام الطائفي ومقتضياته المتجذرة في عقول الناس، غالبية الناس، أن يكون أقوى من أحكام الديموقراطية وآلياتها.
يكفي أن يكون حفيد كمال جنبلاط هو الجالس في صدر دار المختارة مستقبلاً الناس ومصغياً لشكواهم ومطالبهم ومتابعاً لشؤونهم، حتى يصير مرجعهم اليومي ومستقبلهم المحتم، أقله في تلك المسائل الصغيرة والبسيطة.
وبالفعل، أعلن تيمور بنفسه وبشكل غير رسمي انضمامه الى دائرة القرار، حتى لو كانت حصته في هذه الدائرة لا تكاد تذكر، نظراً للحجم الذي سيتركه وليد جنبلاط لنفسه ويبقيه ضمن صلاحياته.
فعلى صفحته على موقع فايسبوك اختصر الشاب عملية التسلّم والتسليم بصور ثلاث جمعت الأجيال الثلاثة، من كمال، الى وليد، ثم تيمور، تحت عنوان يقول «دار المختارة كان وسيبقى قصراً للشعب».
يوم السبت الماضي تقصد وليد جنبلاط الغياب عن لقاءاته الأسبوعية مع الناس، ليوكل المهمة الى نجله. هكذا بلغت الرسالة كل زوار القصر العتيق. التعامل مع «البيك» الجديد صار إلزامياً، وبات على الأخير تحمّل هذه المهمة. لا مكان للعودة الى الوراء.
صحيح أنّ الشاب خاض فترة تدريبه بين الناس، من خلال القيام بواجــبات العزاء والافراح، المشاركة الصامتة في المصــالحات، النشاطات الاجتماعية، وجولات في المناطق… ولكنها بقيت كلها مربوطة بمزاجه، يقوم بها عندما يحلو له الأمر. ولكن بعد اليوم صار الأمر مختلفاً.
عملياً، غرق الرجل في دوامة العمل السياسي. لم يعد من خيارات متاحة أمامه. يبدو أنّ القناعة ترسخت في ذهنه، بعد محاولات «المقاومة المكتومة»، بأنّه لا مفر من القيام بوظيفته كزعيم مستقبلي للجنبلاطيين ومن يدور في فلكهم.
هو أصلاً لم يحاول التمرد على «قدره» بأن يكون وريثاً حتمياً للجنبلاطية، لكن فترة إقامته في باريس طبعت في شخصيته الكثير من الأفكار الغربية التي لا تشبه التركيبة المحلية بشيء، ولا تهضم النظام السوريالي الفوضوي القائم.
ولهذا كان يردد دوماً أمام رفاقه وأصدقائه من الحزبيين وغير الحــزبيين أنه كاره للنظام اللبناني ومقتنع أن نهايتــه مأساوية، ولكن هذا لا يعني أنه لن يستوعبه أو يعمل بموجباته. وهذا ما يُنتظر أن يُعبّر عنه في المرحلة المقبلة على دفعات وعلى طريقته الخاصة.
هنا، تتردد على ألسنة الاشتراكيين مقولة شهيرة دوّنها كمال جنبلاط في بداية انطلاقته حين تمنى لو كان يتمــتع بالحــرية التي تتــيح له أن يقصد بلاداً بعيدة أو أن يكون طبيباً على سبيل المثال، لكن واجبه أبقاه في أرضه وأقحمه المعترك.. فهو اقتنع لكنه لم يكن راضياً.
بالنسبة للاشتراكيين، هو المشهد ذاته يتكرر مع تيمور، فهو مقتنع بواجبه وإن كان غير راضٍ. وها هو يخطو أولى خطوات مسيرة ثقيلة ومعقدة متوارثة عن الأجداد، بصعوبة تحدياتها، وسحر نفوذها وسطوتها.
على دفتر حسابات وليد بيك، صار من المنطقي أن يغرق تيمور في يوميات العمل السياسي. راكم ما يكفي من العلم والتجربة ما يسمحان له بأن ينطلق في فضائه الخاص.
طبعاً، لن يكون الابن نسخة عن والده. ومن يعرفونه أو تسنى لهم لقاءه يوم السبت، لمس الفوارق. يجيد الإصغاء بهدوء لافت، لا بل يبدي حماسة لمتابعة تلك التفاصيل الصغيرة التي تهم الناس.
أبرز انطباع خرج به زوار المختارة أنه ودود جداً وفيه الكثير من التواضع الذي عبّر عنه بدعوة من التقاهم أن يمهــلوه بعــض الوقــت للــتآلف مع الواقع الجديد ومتطلــباته، ليؤكد أمامهم أنه يجلس على كرسي سبقه اليها وليد جنبلاط ومن قبله المعلّم كمال. وهنا كل التحدي.
هذا الانتقال التدريجي للتركة الزعامتية لا يعني أبداً أن الزعيم الاشتراكي استقال من مهامه وأقفل أذنيه عما يحصل في القصر الجنبلاطي. لا بل تابــع رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» تفاصــيل اليوم الطويل بكل حذافيره مع نجله ومع المجــموعة الحزبية التي أحاطت به، ليخرجوا جميعاً بتقييم مفصل عن «بروفا» اليوم الأول، وما لها وما عليها.
هكذا صار لقب السعادة مجرد بروتوكول شكلي قد يحتاجه الوريث في مسيرته. فالقرار اتخذ وصار تيمور في قلب المعادلة. أما النيابة، فلن يكون أي من الجنبلاطَيْن، الأب أو الابن، مستعجلاً عليها، مع العلم أن الاشتراكيين يؤكدون بالفم الملآن أن الانتخابات الفرعية حاصلة لا محال بعدما جرى التفاهم عليها، وهي لم تعد بعيدة.
أما بالأمس، فقد بات تيمور وبشكل قاطع «زعيم الغد» في المختارة.. وهنا كل الفارق.