ستستمرّ من دون شكّ لفترة تالية عمليةُ البحث أو «التنقيب»، حسب بعض المراجع السياسية، عن أسرارٍ واكبت إنتاجَ «تسوية تريّث» الرئيس سعد الحريري، وأيضاً، وهي الأهم، تلك التي تواكب حالياً تحصينَ موقعه داخلياً وعربياً بعد عودته عن الاستقالة.
ثمّة أسئلة لا تزال من دون إجابة شافية، وأبرزها: لماذا عرّج الحريري الى قبرص اليونانية بعد اجتماعه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في طريق عودته من السعودية فمصر وصولاً الى لبنان؟.
هناك كثير من الأجوبة التي قدّمت على هذا الصعيد، وكلها اتّسمت بأنها من باب الإستنتاجات، بعضها ربط بينها وبين رغبته بالتمهيد لأبرز ملف ستعمل عليه حكومته بعد عودته عن الاستقالة، وهو ملف الغاز اللبناني الذي هناك عزمٌ داخلي مصحوب بتشجيع دولي، وأوروبي خصوصاً، على السير به تلزيماً ومن ثمّ تنقيباً فإنتاجاً.
من المعروف أنّ لدى لبنان اشكالية مع قبرص على صلة بأنّ الأخيرة رسّمت حدودها البحرية المشتركة مع اسرائيل والتي بضمنها توجد حدود لبنان البحرية، وذلك من دون أخذ موقف بيروت، ما طرح مشكلة بين لبنان وقبرص تحتاج الى معالجة.
ثمّة تفسير ثانٍ وهو إضافي للتفسير الأول، ومفاده أنّ هبوط طائرة الحريري في قبرص اليونانية التي تكنّ خصومة لأنقرة، كانت مطلوبةً مصرياً وحتى أوروبياً، وذلك لإطلاق إشارة تفيد أنّ تموضعَ الحريري الإقليمي لن يطرأ عليه أيُّ تغيير انقلابي في مرحلة ما بعد عودته من السعودية، والمقصود هنا نفي ما شاع من أنه قد يستبدل غطاءَه الاقليمي السعودي بغطاء تركي قد تكون واشنطن تفضّله.
واتّصالاً بهذه الأجواء التي يطرحها السؤال الأول عن سرّ «تعريجة» الحريري على قبرص خلال عودته الى لبنان، يتمّ ايضاً طرح سؤال عن دور مصر في مسار انتاج تسوية إدخال استقالته مرحلة التريّث، واستدراكاً لتتمّات هذا الدور في مرحلة ما بعد عودته عن الاستقالة؟.
وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال، تتوافر معلومات عن جملة وقائع اساسية برزت خلال مواكبة الحراك المصري لعملية انتاج « تسوية بيان النأي بالنفس»، ويفيد ابرزها أنّ مصر تدخّلت لمعالجة أزمة استقالة الحريري ليس من باب طرح نفسها بديلاً إقليمياً عربياً للدور السعودي في لبنان، بل هي تتصدّى لمهمة ذات شقّين: الشقّ الأول يتصل بدعم الاستقرار في لبنان الذي ترى مصر انه يتّصل مباشرة بأمنها القومي، خصوصاً وأنّ معلومات استخباراتها تتابع وجودَ صلات بين ما يحدث في سيناء وبين حراك الجماعات الارهابية المعولمة في مخميات فلسطينية في لبنان.
أما الشق الثاني فيتّصل برغبة مصر في «تحصين التسوية» التي ادّت الى عودة الحريري عن استقالته، أي المساعدة على ضمان حسن تنفيذ روحيّة بيان النأي بالنفس، وبالتالي إنهاء كل ذيول المشهد الأول والحاد من الإشتباك السعودي – اللبناني.
والثاني، ويبدو أنه الأهم، يتمثل بالقيام بدور المساعد، ايضاً، في «تحصين موقع الحريري» بعد عودته عن الاستقالة، أي مساعدته على تجاوز التبعات الكثيرة التي طاولت خلال ازمة الاستقالة حيثيّته السياسية، سواءٌ ببعدِها السعودي ـ الخليجي، او ببعدِها الداخلي في لبنان.
وتجدر الملاحظة هنا أنّ ثمّة اسئلة عربية، وحتى داخلية، تُطرَح على الحريري حول هوية تموضعه السياسي الداخلي في مرحلة ما بعد عودته عن الاستقالة: هل سيبادر الى إعادة إحياء 14 آذار، ويذهب بالتالي الى إنتخابات تحت العناوين نفسها التي كان طرحُها في آخر انتخابات نيابية حيث ركّز على «موضوع سلاح حزب الله» و«ثوابت قوى الخط السيادي»؟ أم إنه سيستمرّ في نهجه الداخلي نفسه الذي سار عليه منذ عودته الاخيرة الى لبنان حتى ما قبل يوم الرابع من الشهرالماضي؟
يتمهّل الحريري في تقديم اجوبة نهائية عن هذه الاسئلة، فهو بعدما أنهى «فترة تريّث» حسم بعدها قرار عودته الى رئاسة الحكومة، يدخل الآن «فترة تريّث» جديدة على مستوى درس أيِّ تموضع سياسي جديد يجب أن يتمركز فيه.
غير أنّ مصادر مواكِبة لهذا الجزء الخفي من الاتّصالات الجارية بهدف هندسة مرحلة ما بعد طيّ ملف الاستقالة، بحيث «يسودها استقرارٌ سياسي داخلي وعربي»، تؤكّد أنّ الحريري تلقّى نصائح عربية وداخلية بضروة أن لا يستمرّ في سياسة «إهمال» أو «إدارة الظهر» لحلفائه في 14 آذار، ولا سيما منهم أولئك الذين أخذوا عليه في الفترة الماضية أنه استبدلهم بعلاقة قوية نسجها مع «التيار الوطني الحر».
ولا يرى اصحاب هذه النصائح أنّ المطلوب من الحريري إعادة إحياء 14 آذار والعمل على تجميعها كتيار سياسي، بل كل المطلوب هو المبادرة الى إدارة حوارات مع اطيافها والبقاء على تشاور معها، فردياً او شبه جماعي.
وفي مقابل هذه النصائح التي ينطلق موجّهوها من حرصهم على تحصين موقع الحريري في مرحلة ما بعد عودته عن استقالته، تشير مصادر سياسية محلّية وخارجية، مهتمّة ايضاً بالموقع الذي سيتموضع فيه الحريري في المرحلة الجديدة، الى حدثين اساسيّين، احدهما حصل فعلاً ويتمثّل بلقائه مع الوزير جبران باسيل في باريس، والثاني لا يزال هناك إحتسابٌ له، وفحواه يعكسه سؤال مطروح بكثافة في كواليس سياسية داخلية وخارجية، وهو: أيّ حيوية سياسية ستعتمدها السعودية تجاه لبنان في مرحلة ما بعد عودة الحريري عن الاستقالة؟
الإجابة عن هذا السؤال لا تزال غامضة، خصوصاً أنّ هناك تأكيدات أنّ الرياض وافقت على مضض على بيان «النأي النفس» واعتبرته غيرَ كاف، لكنها نتيجة تداخلات معها قرّرت إعطاء «فترة سماح» لترى كيف سيكون التزامُ «حزب الله» به.
أما عن حدث لقاء الحريري ـ باسيل في باريس، فهناك تسريباتٌ توضح أنّ نتائجَه كانت ايجابية على غير مستوى، خصوصاً في جانبها المتعلّق بإرساء رؤية أبعد أثراً من مجرد تلبية متطلبات وتحدّيات هذه المرحلة. ويصف بعض المصادر هذه النتائج بأنها ذات سمة استراتيجية، إذ حدّدت مستقبل تعاونهما في شأن قضايا تتعدّى المرحلة الراهنة وتحدّياتها لتطاولَ مرحلة ما هو مقبل على لبنان من فرص خلال السنوات المقبلة.
يبقى من المهم الاشارة في هذا المجال الى أنّ «حزب الله» من جهته، يرى أنّ المعركة ضده التي بدأت ببيان استقالة الحريري انتهى الجزءُ اللبناني منها، ولكنّ الجزءَ السعودي لا يزال مستمراً، وقد تكون له تتمّات ساخنة في المرحلة المقبلة في حال فشلت شراكة القاهرة ـ باريس في فرملة اندفاعته.