IMLebanon

تيتانيك العهد وشرف الغرق المحتّم

 

الثورة مستمرة في أسبوعها الرابع، المواطنون والمواطنات المتجمهرون في الساحات من مختلف الشرائح المهنية والأكاديمية والإجتماعية يثبتون يوماً بعد يوم أنّهم وحدهم النبض القادر على تجديد الحياة الوطنية بزهوها وألقها المعاصر والحضاري. لا شيء خارج الساحات، سوى دولة متهالكة يتقاذف رموزها مسؤولية سقوطها. كلّ ما يمت الى الطبقة الحاكمة بعائلاتها المالكة ورئاساتها من لقاءات وبيانات يُمعن في المضي في غربة سحيقة لا قرار لها. فبدل أن يشكّل سقوط الحكومة صدمة لفهم واستدراك المزيد من التأزم، إنتقل الصراع الى داخل هيكل السلطة المتداعية فتقاذف من في داخله الإتهامات وتبادل المسؤوليات. «سفينة العهد» التي يحاول كلّ من ركابها غسل يده وتبرئة ذاته من المسؤولية تمعن أكثر فأكثر في الذهاب نحو المجهول.

 

تُهم الفساد التي تقاذفها السياسيون مراراً وتكراراً أمام وسائل الإعلام وفي اجتماعاتهم داخل اللجان النيابية كانت أول خيارات الهروب الى الأمام. فُتحت الملفات التي ربما اعتقد البعض أنها كافية لإشاحة النظر عن كلّ الإرتكابات المتراكمة ولو بصورة مؤقتة. ولكن تلك الملفات ما لبثت أن تحوّلت الى مهازل بين يدي قضاء حاكته هذه السلطة على مقاسها واختلط أشرافه بمرتكبيه، فضاع الحق وضاعت العدالة.

 

محاولة الرئيس نبيه بري لبعث الحياة التشريعية في المجلس النيابي لم تأتِ ثمارها. جدول أعمال الجلسة الملتبس، لا سيما مشروع قانون العفو العام الذي تكاثرت التفسيرات حول مبررات إعطائه صفة المعجّل، تعرّض لحملة من عدد من الكتل السياسية ومن الثوار في الشارع. وبالرغم من أنّ مشروع القانون المذكور قد لامس اللعب على عواطف عائلات الموقوفين الإسلاميين، الذين تُحجم الدولة ومعها القضاء عن محاكمتهم منذ أحداث الضنيّة في العام 2000 وأحداث نهر البارد في العام 2007 وبعدها أحداث عبرا لأسباب سياسية كيديّة معروفة، فقد كان الإجماع الملتزم للثوار بإقفال الطرق وبإعلان الإضراب العام كفيلاً بتأجيل رئيس المجلس النيابي الجلسة لدواعٍ أمنيّة، موجّهاً الإتهام للحراك، كما أسماه، بإحداث الفراغ السياسي وطالباً الى كتلته من وزراء ونواب سابقين وحاليين وجوب رفع السريّة المصرفية والحصانة إزاء أي محاسبة تتعلّق بالمال العام ومذكّراً بمطالباته المتكررة بقانون إنتخابي خارج القيد الطائفي.

 

على المستوى المالي لم تكن سفينة العهد أوفر حظاً، فاجتماع القصر الجمهوري الذي ضمّ وزير المال علي حسن خليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعية المصارف سليم صفير والوزير سليم جريصاتي، والذي حاول وضع الأزمة النقديّة في إطار سوء الإدارة بين مصرف لبنان وجمعية المصارف، بمعزل عن أي تَبعة للسلطة السياسية في ذلك وللسياسات العامة والنقديّة. المؤتم خالد حمر الصحفي الذي عقده حاكم مصرف لبنان يوم أمس كان الرد المناسب على إجتماع بعبدا في رفض الفصل بين السياسات النقديّة التي نفذتها الحكومات والأزمة النقديّة، فنّد أسباب الهندسات المالية ونتائجها في حماية النقد الوطني والتزام مصرف لبنان دوره المحدّد في القانون. حاكم مصرف لبنان الذي نأى بنفسه عن قرارات السلطة السياسية، بالرغم من اعترافه بالأزمة المالية طمأن اللبنانيين الى عدم قانونية تطبيق ما يسمّى بالرقابة على الودائع (Capital Control)، أو بالتعرّض للودائع أو ما يُعرف بـ(Hair Cut) لأن ذلك يتعارض مع قانون النقد والتسليف.

 

مظهر آخر من الإنفصام ما بين قادة سفينة العهد وما يجري فعلياً في الساحات من اعتراض جاء في خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، الذي آثر أخذ اللبنانيين، المنتظرين موقف الحزب من الأزمة الوطنية، في رحلة وثائقية لم تقتصر على العملية الإستشهادية التي نفذّها الشهيد أحمد قصير صاحب المناسبة الوطنية، بل تعدّتها الى اليمن للإشادة بحليفه عبدالله الحوثي الذي انضمّ الى أصحاب الترسانات الصاروخية التي ستدك الكيان الإسرائيلي الصهيوني وتطرقت الى الإكتشافات النفطية الإيرانية التي ربما يعتقد الأمين العام أنها تطمئن اللبنانيين وقد تنقذ إقتصادهم. تستحضر دعوة الأمين العام لحزب الله القضاء للمحاسبة ومحاربة الفساد أكثر من سؤالٍ مركزيٍ، فهل يصنّف الأمين العام إستخدام المعابر غير الشرعيّة وممرات خاصة في المعابر الشرعيّة لإقامة إقتصاد موازٍن  في خانة الفساد وهدر المال العام، وهل تشكّل المربعات الأمنية ومناطق النفوذ التي تمنع الدولة من الجباية سبباً من أسباب الإنهيار الإقتصادي، وهل تشكّل الحروب المتنقلّة من سوريا الى اليمن مروراً بالعراق وشبكات تبييض الأموال في أفريقيا وأميركا اللاتينية أسباباً كافية لإخضاع المصارف اللبنانية لتقييدات النظام المصرفي الدولي وعاملاً طارداً للإستثمار؟

 

يبدو أنّ رواد سفينة العهد الماضون في نرجسيتهم مصرّون على إنكار وتجاهل ما يجري في الساحات، فيما يفاقم تقاذف المسؤوليات من ضعفهم وتماسكهم، والكل يعتقد أنه قادر على الإستثمار حتى اللحظة الأخيرة والقفز من السفينة ساعة يشاء. حظوظ سفينة العهد لن تكون أوفر من حظوظ سفينة التايتنيك، فالغرق أضحى قدراً محتوماً وقد لا يُتاح لربّان السفينة شرف الغرق بشجاعة مع سفينته بالرغم من توفر شروط النجاة.