«هندَسَ» المحقق العدلي القاضي علي عراجي قراره الاتهامي في انفجار صهريج بنزين في بلدة التليل العكارية، في 15 آب 2021، على قياس متّهمين، مسقطاً أيّ مسؤولية عن عقيد في الجيش، كان المسؤول الرئيسي عن مصادرة البنزين وتوزيعه على الناس، من دون قرارٍ قضائي، ما أدى إلى سقوط العشرات بسبب الازدحام الذي تسبّب به القرار وقت وقوع الانفجار.
32 جثة تفحّمت وأكثر من 100 جريح سقطوا في انفجار صهريج البنزين الذي صودر في البلدة، من دون أن يُسمَح للقضاء العسكري بالتحقيق مع الضابط الذي صادر البنزين المخزّن وأمر بتوزيعه. وقد أثار مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية فادي عقيقي، عندما أعطى إشارة باستدعاء ضباط وعناصر في الجيش إلى التحقيق، غضب قائد الجيش العماد جوزيف عون الذي رفض مثول أي من الضباط المسؤولين، ورأى في اجتماع لمجلس الدفاع الأعلى أنه إذا استُدعي كل ضابط يُخطئ للتحقيق، فإنّ أحداً لن يُشارك في أيّ مهمة!، قبل أن يوافق على مثول مدير المخابرات وقائد الشرطة العسكرية كشاهدين فقط!
هكذا سلك التحقيق مساره بعيداً عن مسؤول رئيسي تسبّب إهماله في وقوع المجزرة. وصاغ المحقق العدلي علي عراجي قراراً لم يتضمّن حقيقة ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم، ولم يكشف هوية المُقصّر والمهمل الذي تسبب في الجريمة، مع الأخذ في الحسبان جناية القصد الاحتمالي لجهة قبول الضابط، الذي كان مسؤولاً يومها عن البنزين المضبوط، بالمخاطرة بأرواح الناس. ولم يكتفِ عراجي بالابتعاد عن الإشارة إلى أيّ مسؤولية للجيش، بل ذهب إلى حفظ حق المؤسسة العسكرية في الادعاء! واكتفى القرار الاتهامي بإحالة ثمانية متهمين وأظناء أمام المجلس العدلي للمحاكمة، طالباً لأربعة منهم عقوبات تصل الى الإعدام، فيما ظنّ في الآخرين بجرم التسبب بالإيذاء وتهريب الوقود والاسمنت من سوريا وإليها ونقل سلاح حربي من دون ترخيص.
ورأى المحقق العدلي أنّ الحادثة وقعت «بعدما أقدم جورج إبراهيم وعلي الفرج وهويدي الأسعد على تخزين البنزين بشكل غير آمن، ما تسبّب بقتل العشرات». وأشار إلى أنّ «ريتشارد إبراهيم سلّم قداحة لجرجي إبراهيم الذي يعمل لدى جورج وأمره بإحراق المتجمهرين، فقام بالفعل بإشعال النار قصداً في البنزين المتدفق من أحد الخزانات المكشوفة، إثر خلاف مع المتجمهرين بالمئات الذي تنادوا الى المكان ليلاً للحصول على البنزين». وأشار القرار الى أن «جورج إبراهيم وعلي الفرج وهويدي الأسعد وباسل الأسعد قاموا باحتكار مادتَي البنزين والمازوت وبيعهما في السوق السوداء وتهريبهما الى سوريا عن طريق الهرمل، وكان إبراهيم والفرج يقومان بتخزينها في محلة التليل بعد نقلها من قبل هويدي وباسل الأسعد، كما كان يتم تخزينها في محلّتَي خط البترول ووادي خالد». وفي وقائع القرار الذي جاء وفقاً وخلافاً لمطالعة النيابة العامة التمييزية، فإنّه «مع إبلاغ الجيش عن تخزين بنزين في بؤرة تعود لجورج إبراهيم في بلدة التليل، توجّهت قوة الى المكان قوامها أربعون عنصراً وضابطاً، فتجمهر المئات للحصول على البنزين، بعدما سحب الجيش حمولة صهريج منها ونقلها الى عرمان لتوزيعها على المواطنين. وبعدما واكبت قوة من الجيش الصهريج، بقي في المكان حوالي 20 عنصراً، حين احتشد المواطنون وبحوزتهم غالونات وقاموا بفتح الخزان ليتدفق البنزين على الأرض، ما أحدث فوضى عارمة لم يستطع الجيش ضبطها. وعلى الأثر، حصل إشكال بين متظاهرين حضروا الى المكان ورجال جورج إبراهيم، ما لبث أن احتدم، وتخلّله توجيه شتائم، طلب على أثره ريتشارد من جرجي إبراهيم، العامل لدى والد جورج، تسليمه قداحة لإشعالها. وبالفعل قام جرجي المذكور بالدخول بين الجموع، مهدداً بإشعال القداحة، وهذا ما حصل بالفعل». وأغفل المحقق العدلي ذكر أنّ الضابط المسؤول اتخذ قرار توزيع البنزين المصادَر، ما أدى إلى التجمهر، وهو ما أكده شهود العيان والجرحى. كما أنّ إفادات عدد كبير من الشهود والأهالي كشفت أنّ معظم العسكريين الذين استُشهدوا لم يكونوا في الخدمة، إنما جاؤوا لتعبئة البنزين.
سلك التحقيق مساره بعيداً عن مسؤول رئيسي تسبّب إهماله في وقوع المجزرة
لا يُمكن أن يعفى ضباط الجيش الذين كانوا موجودين من المسؤولية. إذ إنّ القانون ينص على أنّ المصادرة تنقل الحيازة لتصبح الجهة طالبة المصادرة مسؤولة عن حراستها. وفي مجزرة التليل، يُعتبر الجيش الذي صادر البنزين المخبّأ مسؤولاً عن حراسته. وبالتالي، من غير المقبول أن ينسحب الجيش تاركاً البنزين بين أيدي الناس ليقتتلوا عليه. وكان عليه ضبط الخزان بانتظار مغادرة الناس ثم إفراغه بطريقة آمنة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الجيش لا يحقُّ له أصلاً توزيع البنزين المصادر باعتبار أنّ توزيع المضبوط مجاناً مخالف للقانون لكونه يزيد التوتر لدى مالكه. وقرار التوزيع يفرض وجود قرار محكمة يُغرّم مالك البنزين أو يقرر مصادرته بقرار قاض. ومع أنّ المصادرة الإدارية لا تحتاج الى مثل هذا القرار، إلا أن ضبط المحروقات لا يتم سوى بقرار قضائي. وليكون التحقيق أكثر شفافية، لا يجوز أن تتولى الشرطة العسكرية التحقيق في جريمة ربما يتحمّل ضباط أو عناصر من الجيش مسؤولية عن وقوعها.