إنّها أم المعارك اليوم بالنسبة إلى نظام آل سعود الذي يواجه انهياراً سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكرياً، ولم يعد قادراً على الوفاء بتعهداته المالية لجحافل الخدم والعبيد الجاثمين عند معالفه. معركة التضليل المطلق، كي يغضّ العرب طرفهم وفي مقدمهم أهل الجزيرة، عن جرائم هذا النظام القروسطي، وتسلّطه وغطرسته واستبداده وفساده وظلاميّته.
المطلوب أن يقبل الرأي العام بسياسة انتحاريّة قائمة على ارتكاب المجازر وتجنيد المرتزقة لذبح الأشقاء، وتوريط الخليج العربي، في خراب بلا قعر. وقد بلغ الفجور مبلغاً من النظام السعودي، أنّه اخترع لنفسه «رسالة» جديدة هي مكافحة التطرّف. هو الذي يعتبر قيادة المرأة لسيارتها جريمة، ويعلّم الأطفال في مدارسه أن «الغرب المسيحي كافر»، ويحظّر على «الكفّار» دخول مناطق كاملة في المملكة! كما اكتشف آل سعود لنفسهم فجأة مواهب مدهشة في مجال الدفاع عن «العروبة». علماً أن الوهابية هي مع الصهيونيّة أحد أعظم خطرين محدقين بالعرب، كما بيّن جورج قرم قبل 33 عاماً. هل سيُصدم الناس إذا شاهدوا على «العربيّة» قريباً، وقائع زيارة وفد رفيع من «إسرائيل» إلى… مكّة المكرّمة؟
لكن أين نقرأ اليوم هذه الحقائق؟ من يجرؤ على إدانة تلك الطغمة الرجعيّة التي باعت فلسطين؟ من بوسعه الاحتجاج على العقيدة المتشددة التي تصدّر البؤس الفكري والانحطاط والتخلّف إلى العالم العربي؟ إنه كلام يكاد يضيق به الفضاء الإعلامي العربي، لولا بعض الاستثناءات.
تقدّم نائبان مستقبليان بإخبار ضد رئيس تحرير «الأخبار»، «بجرم إثارة النعرات الطائفية وتعكير صلات لبنان بالسعودية»
«الأخبار» واحدة من تلك الاستثناءات! كشف المسكوت عنه من فضائح آل سعود هو دورنا ورسالتنا ومن صلب عقدنا التأسيسي. «الأخبار» من المنابر العربية القليلة التي تستطيع اليوم، بصوت جهوري وبقهقهات ساخرة، أن توجّه إصبع الاتهام إلى مهرّجي الرياض الذين لا يحسنون إلا التحريض والتخريب والقتل، وشراء العقول والضمائر. ولن تنفع معنا كل محاولات التهديد والابتزاز والتحرّش، من نوع المزحة السمجة التي أطلقها أمس الدويتو جمال الجراح وزياد القادري: لقد تقدّما بإخبار إلى النيابة العامة التمييزية ضد رئيس تحرير «الأخبار» الزميل إبراهيم الأمين (ورئيس حزب «التوحيد العربي» وئام وهاب) «بجرم إثارة النعرات الطائفية وتعكير صلات لبنان بالسعودية». أظرف ما في الأمر أن النائبين المستقبليين، لم يختارا مقاضاة «الأخبار» حسب الأعراف والتقاليد الديمقراطيّة، بل فضّلا تحريض النيابة العامة على مؤسسة إعلاميّة. إنّه اعتداء سافر على حريّة التعبير… ومحاولة ترهيب، لا ينقصها لا الغباء ولا الوقاحة، لجريدة تسمّي الأشياء بأسمائها، منتمية إلى التقاليد العريقة للصحافة اللبنانيّة، مدافعة عما تبقّى من مساحة ديمقراطيّة يعمل على قضمها ملوك الطوائف.
في السابق كان شراء الصحافيين يكفي. اليوم صار من الضروري اللجوء إلى القمع و… «الترهيب» بكل الوسائل التي تتقنها المملكة. جرّب السفير علي عوّاض عسيري حظّه معنا قبل أشهر، وهددنا على المكشوف، وما زلنا نتوقّع «هداياه» أمام مبنى «الكونكورد». ثم جاء دور أذناب الوكيل اللبناني المفلس لآل سعود، لتجريب أبشع أنواع الرقابة. يتهمنا النائبان الحريريان بالتحريض الطائفي! على أساس أن رفيقي سلاح خالد الضاهر، ومعلمهما سعد الحريري، وأسيادهما «النهضويين» في الرياض المعروفين بدعم حركات التحرر، كل هؤلاء مدرسة في قبول الآخر واحترام الاختلاف وحوار المذاهب والأديان. إن الفتنة والتكفير صناعة سعوديّة ـ إسرائيليّة يا شباب! أما «تعكير صلات لبنان بالسعوديّة» فتهمة مبتكرة حقّاً. سياسيّاً وقانونيّاً. وهل تريداننا أن نرقص العرضة مع جلادي رائف بدوي وسجاني أشرف فيّاض والمئات غيرهما، بل قل مع ذابحي الشعب اليمني والشعب البحريني… بمباركة «الديمقراطيّات» الغربيّة؟
يريدنا آل سعود أن نصدّق أكاذيبهم الدمويّة. لقد حجّبوا الفضاء، صادروا الأقمار الصناعيّة وامتطوا الجامعة العربيّة، اشتروا الذمم واخترقوا المؤسسات الإعلاميّة، أو أسكتوها بالابتزاز والضغط والترهيب… ناهيك بالآلة الإعلاميّة الضخمة التي يديرونها مباشرة. لقد جنّدوا جيشاً من المرتزقة، وباتوا عاجزين عن تمويله. لكنّ هناك متطوّعين وفدائيين لحسن الحظ، مثل جمال الجراح وزياد القادري. مطاوعة آخر زمن، يريدوننا أن نسكت عن نظام انحطاطي يشدّ بالأمّة إلى الهاوية، ويشكّل بعقيدته، ومؤسساته كافة، أضخم مصنع للإرهاب والتطرّف في العالم. أي وطن هذا الذي تقضي مصلحته بمهادنة الخونة والمجرمين؟ عذراً أيها المناضلان التنويريان. نحترم جداً علمانيتكما وحرصكما الاشتراكي على «اقتصاد الكاباريه»، وحكم القوادين والسماسرة. لكن، عودا إلى معلّمكما في «مدن الملح»، وقولا له إننا لا نصغي إلا لأهلنا في الجزيرة العربيّة، ولا نقرأ إلا عبد الله القصيمي وعبد الرحمن منيف وأمثالهما، وإننا مسكونون بالصراخ المكتوم لشعب يحلم بالتحرر من نير العبوديّة، وبالخروج من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة. هؤلاء أهلنا وحلفاؤنا، من أجلهم سنمضي في المواجهة مع «مملكة القهر»… إلى النهاية، حتّى الانحسار النهائي للمدّ التكفيري.