اجتمع العالم كلّه بالأمس على التفجّع على حلب وعلى المدنيّين الذين أعدموا وعلى رسالة الصبيّة الممرضة الحلبيّة التي انتحرت حتى لا تُغتصب ـ إن صحّت الرّسالة والرواية ـ شخصيّاً لا أريد المشاركة لا في الصمت العاجز ولا في الرّفض الصّارخ للجرائم والفظاعات المرتكبة في حلب، فقد مرّ على تفجّعنا ما يقارب السنوات الستّ، من درعا إلى حمص وباب عمرو، والغوطة الشرقيّة وداريّا، إلى حلب ومجازر شرقيّها، كلّ التفجّع لن يوصل إلى حلّ يحمي الآمنين، أريدُ فقط أن أستعيد من سنوات عشر، عندما أعلنت حلب عاصمة للثقافة الإسلاميّة هذه القصيدة ومقدّمتها للشاعر الحلبي عامر الدبك، وأن أهديها للذين من المفترض أن يكونوا قد بدأوا يغادرون فجر اليوم شرقي حلب تحت مظلّة حماية دوليّة، وأخاف أن يتكرّر مشهد صور تلك المذبحة للنساء والأطفال وحقائبهم المرميّة وسط طريق مزروع بالموت والقذائف العشوائيّة، تلك صورٌ شاهدنا الكثير منها في لبنان لأبرياء سقطوا بقذائف الاحتلال السوري، وأفكّر كم كان علينا أن نشكر إسرائيل لأنّها منعت الطيران السوري من التحليق في المجال اللبناني، وإلا لكنّا كتلك الصور التي وثّقت جرائم الطيران السوري ضدّ شعبه البريء!!
“وقف المتنبي في ساحة سعدالله الجابري، تأمّل كلّ شيء حوله، تأمّل النّاس اللافتات الإعلانات، ردّد في سرّه: “كلما رحّبت بنا الروض قلنا حلب” وصمت… ثم بكى، عندها دار حول نفسه كالمجنون، ثم أطلق على رأسه رصاصة من مسدس قديم، وسقط وسط الساحة. واحتفاء بهذا الانتحار الجليل، فقد قرّر القائمون والجالسون والمتكئون أن يقيموا فوق قبره كرة عظيمة تُشجّع الشعراء على الانتحار، وقد وجد أحد العامة بين أوراق المتنبي التي تناثرت في الساحة هذه القصيدة: “كفى بك داء أن ترى الموت شافيا/ وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا “أقلّب طرفي والرؤى خاب كَشْفُها/ ويلهج بالأحزان سراً لسانيا/ أيطعنُ مقتولٌ ويُطلقُ قاتلٌ/ وأصبح في عرف الحداثة جانيا/ حببتك يا شهباء فانفرط الهوى/ كما انفرط القلب الذي كان حانيا/ فمزّقتُ أسمائي كمن ضاع سرُّه/ وواجه عُري الريح في البرد عاريا/ أمرُّ كأنِّي في الدروب مشرّدٌ/ أودّعُ في الحارات مَنْ كان وافيا/ أودّع أحلامي ومِنْ غير رجعةٍ/ وأترك دمعي يستحلُّ المآقيا/ فكلُّ الذي حولي بقايا أحبةٍ/ فلا كنتُ – إن ضاع الأحبة – باقيا/ حببتك يا شهباءُ والحبُ سُنّتي/ وما كنت أدري قد سننتُ فنائيا/ أتيت لألقي بين كفيكِ صرختي/ وقد حزَّ روحي أن طويتِ ندائيا/ فأحرقتُ أوراقي لأُحْرِقَني بها/ لعلّي إذا ما الريح صارتْ ردائيا/ أعيدُ إليكِ الرّوح مِن عبث الردى/ وأبعثُ – إن ضمّتْ يداكِ – رماديا/ ولكنَّ ناري أطفؤوها بليلهم/ وشدّوا بحبلِ الحزن ليلاً وثاقيا/ وقالوا:أتيتَ اليوم لا وقت عندنا/ فمَنْ أنتَ حتى جئتنا اليوم شاكيا؟/ ألم ترَ أنَّا قد نفضنا غبارنا/ وساحاتنا أمسى بها اللحن عاليا/ فقلت: إذا أنكرتموني فإنني/ لتأَلفُني الحاراتُ إن طفتُ ساعيا/ وما أنتمُ قصدي ولكنَّ لهفتي/ إلى حلب امتدت تضم القوافيا/ أتيت لعلي أستعيد هنا الهوى/ وأروي فؤاداً مذ ترحَّلَ صاديا/ ففي حلب الدنيا تجلّى خلودها/ وها جئت فيها أستعيد خلوديا/ فقالوا: كفى إحمل بقاياك راحلاً/ مللنا من التاريخ وهما مثاليا/ ودعنا فإنَّا في الغناء خلودنا/ ومن خطبة عصما ندك الرواسيا/ فقلتُ: كفى قد ضاق صدري من الأسى/ وما كان دهري – مثلما اليوم – قاسيا/ لقد أقلقتني الريح لكنَّ همتي/ كصخر وأحلامي تنادي فضائيا/ حملتُ صروفَ الدّهر والدّهر واقفٌ/ وسرتُ إلى أن أصبح الدهر جاثيا/ وما كان يوماً في يقيني بأنّني/ سينكرني أهلي وأطردُ حافيا/ وأني سأمضي كالغريب بلا فمٍ/ وحيداً على نفسي “تشلهمتُ” باكيا/ وأنّي سأرمي كلَّ أسرار رحلتي/ واخنقُ في قعر الكلام سؤاليا/ أما من حفيدٍ قد تولّى رسالتي/ يقيم صلاة الشعر مذ كان صافيا/ يعيدُ من الأحلام ما كان نائماً/ ومن رحلة الأسرار ما كان خافيا/ وما جئت إلا كي أرى في دياركم/ مسافات مجد ضاق عنها خياليا/ أتيتُ أرى الشهباء لكنَّ خيبة/ أطاحت بأحلامي وأدمت صباحيا/ فحطّت سحابات من الحزن في دمي/ كأنِّي أرى ما لا يُرى في دمائيا/لقد بات فيها كلُّ شيء مشوهاً/ فقد ضيعوها واستباحوا تراثيا/ كأنِّي بها أمست بقايا مدينة/ إلى الموت قد أمسى بها النجم هاويا/ طلولٌ وأشباحٌ ووهمٌ مخادعٌ/ وقطّاعُ أحلام. كفى الموت شافيا/ سأرحل..لا شعري يعيد مدينتي/ولا أدمعي تُحيي دهوراً خواليا/ لعلّي أرى الشهباء في قبر وحدتي/ فأبعثها.. فالقبر أمسى عزائيا/ أضمّ بقاياها وأحيي رميمها/ وأطلقها بيضاء للحب ثانيا”.