أعادت المحادثات بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف عقارب الساعة السورية الدموية إلى الوراء، تحديدًا إلى 30 يونيو (حزيران) من عام 2012، وهو تاريخ الفشل الذي مُني به مؤتمر «جنيف – 1» بسبب الإصرار الروسي على إجهاض محتوى عملية الانتقال السياسي، عبر التمسك ببقاء بشار الأسد في رئاسة الجمهورية «لأن السوريين هم الذين يقررون مصيره»!
منذ ذلك الوقت حتى اليوم قُتل عشرات الآلاف من السوريين وتهجر مئات الآلاف، وفشل الأخضر الإبراهيمي ومهمته المستحيلة بعد انهيار مهمة كوفي أنان ووساطته الواهمة، ويبدو أن مساعي بريان دي ميستورا الهامشية هي أيضًا على طريق الفشل، وعلى امتداد ثلاثة أعوام تراجع الحديث عن الحلول السياسية، وسيطرت أخبار «داعش» و«النصرة» والبراميل المتفجرة على المشهد في سوريا والعراق.
فجأة تواترت قبل أسابيع أخبار عن موافقة روسيا على خريطة دولية تتضمن مصير الأسد، وجاء ذلك بعد حركة دبلوماسية روسية واسعة، حيث التقى لافروف جون كيري مرتين تباعًا وتسربت أنباء إضافية عن هذا بعد اللقاء الثلاثي الذي جمعهما مع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في الدوحة، وتحدثت تقارير كثيرة عن أن عقدة الأسد التي أعاقت الحل السياسي دائمًا يمكن أن تكون في طريقها إلى الحل.
كانت الأجواء قبل أسبوعين توحي بأن الروس يضعون مؤتمر «موسكو – 3» على نار حامية، ويحاولون إيجاد صيغة مقبولة لمسألة الانتقال السياسي، ثم جاءت سلسلة الاجتماعات التي عقدها ميخائيل بوغدانوف الذي قام برحلات مكوكية بين الدوحة وطهران والقاهرة، مع معارضين من الداخل والخارج لتوسّع التوقعات بإمكان إيجاد كوة في الجدار السوري المقفل على الدم والدمار.
في هذا السياق برزت المحادثات التي جرت في القاهرة بين بوغدانوف وأحمد الجربا، الذي أعرب عن ارتياحه حيال «تطور في الموقف الروسي»، ولمح إلى توافق مع بوغدانوف حول الخريطة الدولية للحل المقترح والتي تشمل مصير بشار الأسد، وركّز على أهمية عامل الوقت وإيقاف مناورات النظام السوري وتعطيله أي حل سياسي، مؤكدًا تعاون المعارضة توصلاً إلى الحل السياسي العادل والشامل.
بيان الخارجية الروسية عن اللقاء مع الجربا أشار بدوره إلى «تبادل وجهات النظر بهدف تنشيط سبل الحل المنشود وإنجاز العملية السياسية وفق بيان (جنيف – 1)»، في حين نُقل عن الجربا أنه أبلغ بوغدانوف صراحة أن السعي لإيجاد قواسم مشتركة حيال الحل المنشود، يجب أن لا يتعارض مع الثوابت التي تتطلب ترتيب عملية الانتقال السياسي وفق مخرجات اجتماع القاهرة للمعارضة السورية وبيانها الختامي!
كانت فصول الاتصالات والمحادثات في الأسابيع الماضية توحي بإمكان إحياء فرص التسوية السياسية، على قاعدة أنه بات من الممكن أن يكون بشار الأسد خارج المعادلة، شجّع على هذا تقاطر المعارضة إلى موسكو والمساعي التمهيدية التي يبذلها دي ميستورا لتشكيل لجان حوارية، إضافة إلى مسارعة إيران إلى إحياء الحديث عن مبادرة للحل من أربع نقاط، لكنها لا تختلف في مضمونها عما سبق أن أعلنته ورفضته المعارضة.
فجأة انهارت كل هذه الأجواء بعد محادثات لافروف وظريف في موسكو حيث أعلنا أن روسيا وإيران مستمرتان في اتفاقهما الواضح والثابت والصريح، على عدم التخلي عن بشار الأسد في أي صيغة أو مقاربة لحل الأزمة السورية.
يقول لافروف: «إذا اعتقد بعض شركائنا أن علينا أن نوافق مقدمًا على أن يترك الرئيس منصبه في نهاية فترة مؤقتة، فلن يكون مثل هذا الموقف مقبولاً بالنسبة إلى روسيا»، ويؤكد أن موسكو لا تزال متمسكة بالقاعدة المتينة المتمثلة في بيان «جنيف – 1» الصادر في 30 حزيران 2012 والذي ينصّ على حل كل مسائل الأزمة السورية عبر مفاوضات بين الحكومة السورية ووفد للمعارضة يضم جميع أطياف خصوم القيادة السورية!
لافروف وظريف أكدا تمسكهما بالنظرية التعجيزية المخادعة والخالية من أي معنى بعد خمسة أعوام من المذابح وأكثر من مائتين وخمسين ألف قتيل و12 مليون مهجّر، عندما كررا القول: إن على السوريين أن يقرروا هم مصيرهم ومصير الأسد بأنفسهم، أما الدول الأجنبية فيجب أن يقتصر دورها على تسهيل تحقيق هذه المهمة.
إعلانات لافروف وظريف تبدو من الماضي الدموي السحيق، أولاً لأن الشعب السوري الذي حاول أن يطالب ببعض من الإصلاحات السياسية قبل خمسة أعوام ذبح بالحديد والنار وبمشاركة سياسية وعسكرية من روسيا وإيران، اللتين تدعمان النظام وتتمسكان بالأسد ثم لا تترددان في الحديث عن ضرورة عدم التدخل الخارجي في الشؤون السورية، وثانيًا لأنهما يطالبان بما لم يعد في حساب الأسد الذي بدا في خطابه الأخير كمن يمهّد لقيام دولة العلويين التي سيطلق عليها اسم «دولة الساحل».
ذلك أنه لم يعد يسيطر على أكثر من 25 في المائة من الأراضي السورية، لا بل إنه يعترف صراحة بوجود نقص في عدد قواته ولا يتردد في تبرير الانسحابات بالقول: إنها تتم لدعم الصمود في مناطق أكثر أهمية والمقصود طبعًا المناطق العلوية، ولكأن المحافظات السورية التي خسرها أو انسحب منها في الشرق والشمال والجنوب ليست مهمة.
المثير أن تأتي تصريحات لافروف وظريف في اليوم عينه الذي نفّذت فيه مقاتلات الأسد مذبحة ضد المدنيين المحاصرين في درعا حيث قتل أكثر من مائة وعشرين وجرح أكثر من ثلاثمائة، وحيث تدور منذ أشهر معارك ضارية من الواضح أنها تهدف لترسيم حدود دولة العلويين، فالقتال من القلمون إلى الزبداني فدرعا إلى تلال عرسال على الحدود اللبنانية، هدفه تأمين الكوريدور أو الممر الذي يربط بين دولة الساحل وبعلبك والهرمل في لبنان، بما يحفظ خطوط الاتصال والإمداد بين إيران التي ستدير الدولة العلوية بمشاركة روسية و«حزب الله» في جنوب لبنان!
في ظل الغياب الأميركي المتمادي عن الوضع السوري ومع الاستعدادات التركية لإقامة المناطق الآمنة في الشمال، ومع تراجع سيطرة الأسد وعجزه رغم الدعم الروسي والإيراني الكبير والمتصاعد بالعتاد والرجال والمال، كيف يستطيع لافروف وظريف التمسك بعقدة الأسد التي أفشلت كل الحلول والتسويات منذ البداية، إن لم تكن روسيا وإيران تراهنان على أنه سيكون في وسع الأسد أن يحتفظ شكلاً بالشرعية السورية بعد انتقاله إلى دولة العلويين التي يمكن أن تشكل جائزة ترضية لموسكو وطهران، اللتين خسرتا كل سوريا وهما ترفعان لواء الأسد وتحرصان على ربح دولة الساحل تحت لواء الأسد؟