إذا كان لا بدّ مِن «استطلاع» المسيحيّين اليوم، فليكن ذلك في الخيارات الوطنية الكبرى، وليس لاختيار الشخصية الأكثر شعبيةً لرئاسة الجمهورية، لأنّ هذا الاستطلاع لن يقدّم ولن يؤخّر في انتخابها.
ما الهدفُ من استطلاعٍ نتائجُه معروفة، والأهمّ أنّ ترجمة هذه النتائج متعذّرةٌ لأسبابٍ دستورية بالدرجة الأولى، كونها غيرَ ملزمةٍ لأيّ طرف في 8 و 14 آذار وما بينهما، وأخرى سياسية لا تقلّ أهمّيةً عمّا سبَقها وتتّصل برفضِ السُنّةِ والشيعة إيصالَ رئيسٍ يرَجّح كفّة أحدِهما على الآخر، في ظلّ صراع طابعُه الأساسي سنّي-شيعي وسعودي-إيراني، إلّا إذا كان المقصود إدخالَ البلد في إشكاليةٍ جديدة تحت عنوان «الرئيس التمثيلي» الذي تَختاره الناس بالاستطلاع، و»الرئيس الدستوري» الذي يَختاره النواب في مجلس النواب، وما يمكن أن ينجمَ عن ذلك من مواصلةِ ضربِ هيبةِ رئاسة الجمهورية.
وهذه الإشكالية تقود إلى إعادة المسيحيين 25 سنة إلى الوراء، حين رفضَ قسمٌ منهم الاعترافَ بشرعية الرئيس الياس الهراوي المنبثِقة من اتّفاق الطائف، وأصَرَّ هذا القِسم على اعتبار أنّ استمراريتَه في السلطة منبثقة من شرعية الناس، فيما «شرعيّة» غيرِه مزوَّرة وتشَكّل انقلاباً على مزاج الناس والمؤسّسات.
فالهدف الأساس من الاستطلاع خلقُ وترسيخُ وتكريسُ هذا الفرز في وعيِ المسيحيين ولاوعيِهم بين الرئيس الذي يشَكّل مطلباً مسيحياً، والرئيس الذي يشَكّل مطلباً إسلامياً، عِلماً أنّ هذا الأمر غير صحيح، لأنّ انتخاب الرئيس خاضع لميزان قوى سنّي-شيعي دقيق، وعلى المسيحيين التكيُّف مع هذا الوضع بما يحقّق مصالحَهم المسيحية، وليس دعوة المسلمين للتكيُّف مع مطالبهم، لأنّ لبنان يشَكّل جزءاً صغيراً مِن الصراع السنّي-الشيعي، ولن يجازفَ أيّ منهما بانتخاب المسيحي الذي يتموضَع مع هذا الفريق ضدّ الآخر.
وما يقوله «حزب الله» هو فقط للمزايدة السياسية مسيحياً، فيما في قرارةِ نفسِه لا يريد هزَّ التوازن القائم، كونه مِن أكثر المستفيدين منه، ولو عادَت إليه لكانَ في طليعةِ الدافعين لانتخاب رئيس وسطيّ، ولكنّه يريد مسايرةَ العماد ميشال عون، وليس بواردِ التضحية بتحالفِه معه مقابلَ السير برئيس وسطي، إلّا في حال طَلبَت منه طهران ذلك نتيجة ضغوط دوليّة عليها وحاجتها إعطاءَ إشارات إيجابية.
وما ينطبق على انتخاب الرئيس اليوم يجب أن ينسحبَ على قانون الانتخاب غداً، بمعنى تطمين السُنّة والشيعة أنّ الكفّة النيابية المسيحية لن ترجّحَ كفّة طرفٍ على آخر، وأنّ مبدأ الديموقراطية القائم على الأكثرية والأقلّية النيابية يجب تعليقه لمصلحة التوافقية بين المكوّنات الطائفية، وهذا التطمين وحدَه كفيلٌ بانتزاع القانون الذي يُعيد حسنَ التمثيل للمسيحيين.
فما فَعله النائب وليد جنبلاط بعد انتخابات العام 2009 يجب أن يكون القاعدة والقدوة للمسيحيين الذين عليهم أن يدركوا بأنّ المعبر لانتزاع حقوقِهم التمثيلية يَكمن في تحييد أنفسِهم عن الصراع السنّي-الشيعي. فلم يعُد مجدِياً غَضّ النظر عن هذا الصراع ووضعُه تحت عناوين وطنية من قَبِيل الاصطفاف بين 8 و 14 آذار، هذا الاصطفاف الذي انتهى محَلّياً مع اتفاق الدوحة وإقليمياً مع الأزمة السورية.
فما على المسيحيين اليوم سوى التوافق على مرشّح وسطيّ، وإلّا فلا رئيس. والاستطلاع بهذا المعنى ليس مجدِياً، بل سيُعيد نغمةَ الإحباط المسيحي، فضلاً عن أنّ شعبية العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع ليسَت موضعَ نقاش وخِلاف، الأمرُ الذي يُحَتّم تغييرَ وجهةِ الاستطلاع كمدخَلٍ لإعادة تحديد الأولويات المسيحية والتي في ضوئها يُعاد تحديد دورِهم السياسي والسلطوي.
وقد يكون من المفيد جداً استطلاع المسيحيين حول تموضعِهم من الصراع السنّي-الشيعي، وأولويتِهم من البُعدَين السيادي والتمثيلي، ورؤيتِهم للنظام السياسي، ونظرتِهم لدور لبنان في ضوء خمسة عقود من الصراع اللبناني والفتنة المستجدّة.
وأهمّية هذا النوع من الاستطلاعات اليوم هو في توقيتُه أي في تزامنه مع واقعَين: واقعٍ إقليمي متحرّك يعاد فيه رسمُ مواقع النفوذ وأدوار الجماعات وربّما حدود الدوَل وتحديداً في العراق وسوريا، وواقعٍ محَلّي وصَل إلى الحائط المسدود.
وهذا الوضعُ المحَلّي والإقليمي هو مفصليّ في تاريخ الشعوب، لأنّه لا يتكرّر إلّا في حقبةٍ معيّنة، وهو ما زال ساريَ المفعول منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبالتالي على المسيحيين عدمُ تفويتِ هذه الفرصة التاريخية التي يعاد فيها رسمُ معالم المنطقة من أجل إمّا التمسّك بالمشروع الذي عَمِلوا وخَطّطوا له وأطلقوه وترجموه في لبنان الكبير وميثاق العام 1943 واتّفاق الطائف، وإمّا إدخال التعديلات اللازمة عليه بما ينسَجم مع المصلحة العليا للمسيحيين.
ومن هنا ضرورة تغيير وجهة الاستطلاع لمعرفة اتّجاهات المسيحيين بعد 15 سنة حرب و15 سنة وصاية وعشر سنوات من المواجهة تحت عنوان سلاح «حزب الله»، وبالتالي العمل بموجب هذه الاتجاهات في لحظة مفصلية غير قابلة للتكرار وتحَتّم المصارحة التامّة قبل زوال آخِر معلَمٍ مِن معالم المسيحية عن الأرض التي وُلِد فيها المسيح ومات.