بينما تحاول حكومة التناقضات الوطنية تجنب الملفات الخلافية للانطلاق ببرنامج عمل منتج بات أكثر من ضرورة في ظل الأزمات الاقتصادية والمعيشية الخانقة، تحاول بعض الأطراف تحويل الحاجة الوطنية لوقف الفساد والحد من الهدر إلى سلاح يُرفع بوجه فريق معين ويستهدفه بشتى الوسائل من جهة وصك براءة لحلفائه، وكأن الفساد لم ولن يزرهم قط من جهة أخرى! إن بركة الفساد شهدت معمودية كل الأفرقاء دون استثناء، والسبيل الوحيد لمعالجة هذا الملف في ظل التناقضات القائمة هو بإسقاط الحصانة الطائفية والحزبية عن الجميع، وإلا تحوّل هذا الملف إلى سيف ظالم للانتقام والتشفي يعرف الجميع أين يبدأ ولكن نهاياته لا تزال مجهولة… ومن المستغرب أن الملفات المطروحة تستهدف فريقاً دون غيره، مما يفقد المساءلة والمحاسبة صدقيتها أمام الرأي العام الداخلي والخارجي وموضوعيتها في مقاربة الملفات! وعلى الرغم من شهرة اللبناني بقصر ذاكرته السياسية، إلا أن عتمة الكهرباء، التي كلفت الدولة مليارات ذهبت كلها أدراج الرياح وفي جيوب الصفقات، لا تزال تخيّم على أيام المواطن المظلمة وتكلفه فاتورة مضاعفة من دون أن يرف للمسؤولين الذين أخلفوا بوعودهم جفن، ولا يزال التلوث في شتى أشكاله يحاصره بالهواء والماء والمأكولات الفاسدة ويكلف المواطن والدولة فاتورة استشفائية باهظة، أما وزارة الصحة التي تحوّلت إلى مغارة علي بابا فلم يسدّد فواتيرها إلا من جيبه الخاص، أما أموال التعديات على الأملاك العامة فلا تزال مفقودة وهي تقدر بالمليارات كعائدات للخزينة، أما ملف التهريب والتهرّب الجمركي فحديثه طويل ولكنه غائب عن سمع الجهات المختصة.
في حين تحاسب الدول المتقدمة الفاسد من أعلى رأس الهرم إلى أسفله، من دون أن تتعرّض الصيغة للاهتزاز ومن دون أن يلعب الحزب الفاسد أي دور، نجد المحاسبة في لبنان، ومعظم الدول المتخلفة، سلاح حق يراد به باطل، إما ابتزاز أو تشفٍ أو إحكام السيطرة وإعلان أن طريق معاملات الدولة واتفاقياتها تمر من مكان أوحد، مما يضر بالجهة التي تدّعي المحاسبة أولاً وبصورة مؤسسات الدولة المسيّسة والتي تفتقد للموضوعية، وبالتالي لثقة المجتمع الدولي الذي يضعها تحت المجهر ليحدد وجهة ومصير القروض والمساعدات المنوي إعطاؤها للبنان!
ومن جهة أخرى، في وقت تبلغ المواجهة بين إيران والغرب أشدها، ولا يزال الملف السوري عالقاً في الكباش الروسي – الأميركي، لا بد للداخل اللبناني من تطويق الخلافات والتركيز على نقاط التلاقي في مواجهة سلسلة الإجراءات التي طالت حزب الله، والذي بات يشكل جزءاً من مؤسسات الدولة، بدأت بالعقوبات وانتقلت للتصنيف الإنكليزي للجناح السياسي على أنه إرهابي، ولا يمكن لأحد التكهن بالخطوات القادمة… مما يتطلب وحدة موقف لتحييد مؤسسات الدولة عن مواجهة مع المجتمع الدولي لبنان بغنى عنها، والمضي قدماً في حكومة لا بد أن تكون إنتاجية لوضع حد للتدهور الاجتماعي والاقتصادي غير المسبوقين، وإلا تحوّلت لأداة تعطيل تعيد للذاكرة حملة التعطيل التي تعرض لها الرئيس الشهيد، والتي لا يزال لبنان يدفع أثمانها الباهظة حتى اليوم من انقسامات داخلية عطلت مختلف مؤسسات الدولة، من رئاسة إلى السلطة التشريعية وصولاً إلى السلطة التنفيذية، مما أعاق تطوّر الخدمات وغياب السياسات التنموية والمشاريع الإنتاجية لسنوات طويلة، فاقم الأزمة الاقتصادية وقدرة الوطن والمواطن على مواجهة الأزمات الاجتماعية التي تضاعفت بسبب النزوح السوري وغياب الرؤية الموحدة للتعامل معه… فهل لبنان قادر اليوم على مواجهة كل هذه الاستحقاقات المحلية والدولية على وقع انقسامات جديدة تنذر بمواجهات تضعف وحدة الصف وتعطل الإنتاجية من جديد؟ وهل التلطي بمحاسبة فريق دون غيره يمحو الشبهات التي تكاد تكون تهماً عن الآخرين؟
إن كانت نوايا مكافحة الفساد حقيقية وليست شعاراً شعبوياً يراد به ذر الرماد لتغطية صفقات مقبلة، فلتفتح كل الملفات في آن وليقدم كل فريق ما عنده من ملفات، وما أكثرها، وليتقدم كل مواطن تعرض للابتزاز الرسمي حتى نقضي على هاجس صيف وشتاء تحت سقف واحد، وحتى تستعيد الدولة عامة، والقضاء خاصة، ثقة المواطن التي اهتزت بفعل التسييس المستشري والكيدية العمياء!