Site icon IMLebanon

تحويل الناحرين إلى جهاديّين والمُنتحرين إلى شهداء

«وللأوطان في دَم كلّ حرٍّ / يَد سَلفت ودين مُستَحقّ ومَن يسقي ويشرب بالمنايا / إذا الأحرار لم يُسقوا ويَسقوا؟ وللحرية الحمراء بابٌ / بكلّ يد مُضرّجة يُدقّ». (أحمد شوقي)

ما زالت ترن في أذني تعليقات والدي في عالم التجارة عندما كان يقول بعد خيبة أمل أو خسارة: «متى خسر التاجر يبحث في دفاتر والده العتيقة».

وعدتُ بذاكرتي كيف أنّ بعض الراسبين في مدرستي كانوا بعد بضع سنوات من الفشل يعودون لاستلام مصلحة آبائهم وأجدادهم، مع العلم أنّ بعضها قد تخطّاه الزمن، وغالباً ما كان هؤلاء يحصدون الفشل من جديد في عودتهم لأسلافهم.

وكم من مرة سمعت بعض هؤلاء الرفاق يقولون: «وما نفع العلم والمدرسة فقد كان جدي لا يفكّ الحرف ومع ذلك فقد بَنى مصلحة دَرّت عليه ذهباً!» متجاهلين النجاحات الأسطورية التي حققها بعض رفاقنا من الاجتهاد في العلم الذي نقلهم من حافة العَوز والفاقة إلى عالم التألق.

في سياق مماثل، إنّ الكثيرين عندما تعصف بهم الحيرة بما آلت إليه الحياة في أيامنا من تعقيدات غَيّرت كلّ الماضي بكلّ تفاصيله، يعودون بك إلى الحنين والترحّم على «الماضي الجميل زمن البساطة والفطرة حيث كان المرض أقلّ والناس يحبّون بعضهم أكثر، وحتى أنّ الأجداد كانوا أطول عمراً وأكثر قوةً…». مُتجاهلين كم سَهّلَ التقدّم الحياة وكم تقدمت الطبابة ووسائل التواصل وكم زاد معدل حياة الإنسان…

وفي سياق قريب، ولكن شديد الخطورة، راجعتُ قصة سيّد قطب، وهو المرجع الأهم اليوم للحالة الخطيرة التي يعيشها عالمنا منذ انطلاقة تنظيم القاعدة في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، إلى ما شاء الله من زمان نرجو ألّا يطول.

سيّد قطب كان من دون شك مميزاً في طفولته وفي دراسته، وكان كما يبدو من العقول الحرة التي لم تتوقف عن طرح الأسئلة الوجودية، وكان كما يبدو من كتاباته في شبابه عاطفياً وحسّاساً، عنده مَيل واضح نحو الفنون. لم يكن في تلك الأيام يُظهِر أيّ نوع من التعصب، حتى بعد أن أصبح قريباً من حسن البنا في جماعة الأخوان المسلمين.

في سنة 1948 دُعي لزيارة الولايات المتحدة الأميركية لسبب غير واضح وبتسهيل من السفارة الأميركية، وقيل إنه كان في زيارة لها علاقة بالتعليم وتطويره في مصر. بعد أقل من سنتين عاد وهو مُصاب بصدمة واضحة ممّا عاشه هناك، فكتب عن تجربته في كتاب «أمريكا التي رأيت»، وفيه تحليل للشخصيات التي اختبرها هناك ونقد واضح لأسلوب الحياة، مؤكداً أنّ التقدم العلمي سَلب من أميركا الروح وجعل من سكانها يعيشون عيشة أقرب إلى الحيوانية منها إلى البشر من خلال تَحَلّلهم من قيم أخلاقية واجتماعية.

ومن هنا استنتج قطب بأنّ القيَم الوضعية التي اخترعها الإنسان، والتي تطورت على أيدي البشر الفانين في محاولة لتنظيم شؤونهم، من قوانين وديموقراطية ورأسمالية واشتراكية وعلوم تطبيقية، لم تزد الإنسانية إلّا حيرة وتعاسة وأفرغَتها من الروح لأنها غير ثابتة مع مرور الزمن، والحلّ بالنسبة لقطب، كما استَقاه من الداعية الهندي «أبو الأعلى المودودي»، هو العودة إلى «حاكمية الله»، وبالتالي تكفير كلّ مسلم يقبل بحكم غير ذلك، معتبراً الواقع القائم بأنه مُشابه للجاهلية الحديثة. أمّا عن كيفية فَرض الحاكمية المقدسة وتطبيقها، فهي حسب رأيه «لا تتحقق إلّا برجال على استعداد أن يَقتلوا أو يُقتلوا في سبيلها».

أنا لا أريد هنا الدفاع عن الممارسات الأميركية، ولا حتى عن طرق الحياة التي يعشقها الأميركيون، فلي فيها ما لم يَقله مالك في الخمرة، ولا يمكنني بأيّ شكل من الأشكال القبول بالسياسات المُنحازة وغير المقبولة حتى على أساس المبادىء الأخلاقية التي أعلنها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأميركية، ولكني بنفس الوقت لا يمكنني أن أشمل الغرب بأجمعه في العداوة، ولا يجوز أن أنكر ما قدمه العلم والمعرفة عند تلك الشعوب على مدى القرون الثلاثة الماضية لخَير البشرية ومنفعتها، ولا أظن أنهم بذلك خالفوا المقدسات الإسلامية (وقل ربّي زدني علماً).

وحتى على المستوى الإنساني فقد كانت شرعة حقوق الإنسان للأمم المتحدة سنة 1948 أكثر إسلامية من ممارسات الأكثرية الساحقة من المسلمين ودوَلهم التي تدّعي أن الإسلام دينها.

ما لنا ولكلّ ذلك اليوم، فالقضية التي تشغلنا وتشغل العالم هي «داعش» وتداعياتها، ولن أدخل هنا في عالم المؤامرات حول نشأة هذه الظاهرة والشبهات التي تقوم حولها وحول أميرها، فقد نكتشف يوماً بأنها تشبه قضية «إلي كوهين» العميل الإسرائيلي الذي كاد أن يصبح وزيراً في سوريا، ولكن الواضح هو أنّ الصورة التي أنتجَتها هذه الظاهرة هي بحد ذاتها قد تكون أخطر مؤامرة على الإسلام.

فقد أكدت معظم التقارير بأن الإسلام هو أكثر الأديان تمدداً بعدد مُعتنقيه، في وقت يُلاحَظ انحسار واضح في ممارسة شعائر كل الأديان الأخرى، توحيدية كانت أم غير ذلك. ولكنّ منظر الوحشية المطلقة التي تروّج لها «داعش» كصورة عن إسلامها وضعَ المسلمين في حيرة من إيمانهم، وجعلَ من الصعوبة بمكان إقناع الناس بأنّ الإسلام هو غير «داعش»!

في الواقع ليس فخراً للإسلام أن نرى بعض الفوضويّين والتائهين والباحثين عن هوية وأصحاب السوابق في الإجرام والمخدرات واليائسين، يجدون في انتسابهم لداعش ملاذاً لتحقيق شذوذهم وتحويله إلى عنف مقدس بعد أن يعطيهم مَن يستخدمهم كتيّباً عنوانه «الإسلام للمبتدئين» مُترجم للإنكليزية أو الفرنسية، ليصبح بعدها إماماً وواعظاً لمسلمين مبحرين في الشرع والتقوى.

عندها يصبح قاطع الرؤوس مجاهداً، والمنتحر الذي لم تقتله في حياته السابقة جرعة زائدة من المخدرات شهيداً، والحائر الذي لم يجد له مكاناً في بيئته ليجد الحقيقة المطلقة في أساطير مقدسة…

يظن مَن يدير هؤلاء التائهين أنهم بإدارة التوحّش سوف يُرعبون البشر المعتادين على رَفاه العيش والإستقرار والأمل بالمستقبل وحب الحياة، بأنه بإمكانهم دفع البشرية إلى الإستسلام والتخلي عن مكاسبها وحريتها هكذا ببساطة ليصبح الرجال عبيداً لخليفة دجال، والنساء سبايا لإمتاع شذّاذ الأرض!

ما فاتهم هو أنّ هؤلاء النساء والرجال لم يبخلوا لا بدمائهم ولا بنضالهم التي اشتروا بها حريتهم ومستقبل أولادهم، وهم مستعدون للدفاع عنها مجدداً، ولن تسقط الحرية أمام الإرهاب لا في الشرق ولا في الغرب، وقريباً ستعلّق صوَر البغدادي إلى جانب هولاكو وجنكيزخان وهتلر وستالين، ويبقى للناس إيمانهم بأنّ الدين لا خير فيه إلّا إن كان نابعاً من مبدأ الحرية لأنه «لا إكراه في الدين»..