IMLebanon

لجم العجز أصبح مسألة وجود

 

أكثر من 30 مليار دولار أميركي هو مجموع العجز التراكمي بين العامين 2012 و2018. هذا الرقم الهائل كان ليُعطي حجم إقتصاد بقيمة 100 مليار دولار لو تمّ استثماره في الإقتصاد اللبناني. فيما الواقع يُظهر مدى أهمية لجم العجز وضرورة القيام بإصلاحات لتنفيذ مشاريع مؤتمر «سيدر».

 

تنصّ النظرية الإقتصادية على أنّ حجم العجز في موازنة العام الحالي يتأثر بشكل مباشر بحجم العجز في العام السابق. وبالتالي، نظراً إلى أنّ حجم العجز في العام 2018 يفوق الـ 6.3 مليارات دولار أميركي، من المُتوقع أن يتخطّى عجز موازنة العام 2019 الـ 8.9 مليارات دولار أميركي في غياب أيّة إجراءات تصحيحية. هذا الأمر، في حال حصوله، سيُشكّل ضربة كبيرة للمالية العامّة والإقتصاد. من هذا المُنطلق هناك إستحالة عملية للإستمرار على هذا النهج!

 

المذكرة الإدارية التي أصدرها وزير المال علي حسن خليل بتاريخ 22 آذار 2019، والتي يطلب فيها من جميع مراقبي عقد النفقات وقف الحجز كليًا لمختلف أنواع الإنفاق بإستثناء الرواتب والأجور وتعويض النقل الموقت، تذهب بالإتجاه الصحيح من ناحية تجميد الإنفاق العام باستثناء الأجور، بانتظار ما ستؤول إليه موازنة العام 2019. ولكنّها لا تُشكّل حلاً لأزمة الإنفاق العام.

 

ويبقى السؤال عن إمكانية تطبيق هذه المذكرة بشكل شامل من دون أي استثناءات؟

 

نصّت المادة 61 من قانون المحاسبة العمومية تاريخ 30/12/1963 على أنّ «كل معاملة تؤول إلى عقد نفقة يجب أن تقترن، قبل توقيعها، بتأشير مراقب عقد النفقات».

 

لكن هذه المادّة أعطت إستثناء للحالات المُستعجلة الطارئة ضمن إطار ضيّق وليس شاملاً. وبالتالي يُمكن إعتبار أنّ أي عملية صرفّ (من دون تأشير مراقب عقد النفقات) تتخطّى الإطار الضيّق هي عملية غير قانونية.

 

هذا الإجراء إذا ما طُبّق بشكل كامل على كل وزارات ومؤسسات الدوّلة الخاضعة لقانون المحاسبة العمومية، سيسمح بتوفير 400 مليون دولار أميركي شهرياً، أي ما يوازي مليار دولار أميركي حتى إقرار موازنة العام 2019 في شهر أيار المُقبل.

 

لكن في الوقت نفسه سيُقلّل هذا الإجراء من فعالية الإدارة العامة التي تفتقد أصلًا إلى الفعالية نظرًا إلى تفشّي الحماية السياسية لموظفي القطاع العام، والذي ينتج منه غياب المحاسبة وبالتالي هدر وفساد أدّى إلى بلوغ عجز الموازنة هذا المستوى التاريخي.

 

بلغ عجز الموازنة السنوي التراكمي منذ العام 2012 وحتى 2018 أكثر من 30 مليار دولار أميركي، رقم يتخطّى ثلاث مرّات تقريباً حجم القروض الممنوحة في مؤتمر «سيدر».

 

ولكن أين صُرفت هذه الأموال وماذا لو تمّ إستثمارها في الماكينة الإقتصادية؟

 

إنفاق هذه الأموال ذهب إلى كل بنود الموازنة، ولكن بنسب مختلفة، منها ما هو هدر ومنها ما هو فساد ومنها ما هو نتاج الهدر والفساد مثل خدمة الدين العام.

 

ولو كانت الإدارة العامّة فعّالة لما كنا وصلنا إلى هذا الحدّ من العجز، نظرًا إلى أنّ قانون المحاسبة العمومية وعلى الرغم من قِدَمه (1963)، يبقى قانوناً فعّالاً وتطبيقه يُحافظ على المال العام.

 

لكن، الجواب على هذا السؤال يبقى رهن السلطة القضائية التي من مهامها الإجابة عن كل الأسئلة.

 

وبفرضية أنّ هذا العجز تمّ استخدامه كإستثمارات في الماكينة الاقتصادية، كم كان سيكون حجم الإقتصاد اللبناني؟

 

لقد قمنا بمحاكاة لما كان سيكون عليه الناتج المحلّي الإسمي في العام 2018 إذا ما استثمرنا في الإقتصاد العجز المُسجّل كل عام في حسابات الدوّلة من العام 2012 وحتى العام 2017 أي ما يوازي 23.87 مليار دولار أميركي. واعتبرنا أنّ كل المُتغيّرات الإقتصادية والمالية الأخرى بقيت على حالها باستثناء البعض منها كالتضخّم.

 

وتوصّلنا إلى أنّ حجم الإقتصاد اللبناني في نهاية العام 2018 كان ليكون أكثر من 100 مليار دولار أميركي! نعم أكثر من 100 مليار د.أ وهذا بفرضية أن لا إستثمارات أخرى من القطاع الخاص أو إستثمارات أجنبية مباشرة.

 

بالطبع هذا الأمر مُحزن ويطرح أهمية الإدارة الإقتصادية الحكيمة في لبنان، ويؤكّد في الوقت نفسه المقولة الإقتصادية أن لا نمو إقتصادياً من دون إستثمارات.

 

إستثمارات مؤتمر «سيدر» تنتظر الإصلاحات الجدّية في موازنة الدوّلة للعام 2019. لكن وضع الموازنة ما زال يواجه صعوبات كثيرة، على رأسها ملف الكهرباء، وبالتالي لن يكون هناك إقرار لأية موازنة من دون الإتفاق على حل لكل المشكلات والملفات الأخرى.

 

وهنا الخوف من أن تعمد القوى السياسية إلى ربط كل الملفات ببعضها البعض (سياسية، إدارية، إقتصادية ومالية) وهذا يعني أن هناك مخاوف من إنقضاء قسم كبير من العام 2019 قبل إقرار موازنته، أي أنّ الإجراءات التي ستُتّخذ فيها ستكون ضعيفة للجم العجز.

 

وقد يقول البعض إنّ المهم هو الوصول إلى موازنة إصلاحية جدّية بغض النظر عن توقيت إقرارها. إلّا أنّ ما يجب قوله في هذه الحالة، انّ لبنان لا يملك ترف الوقت، لأنّ عدّاد العجز وبالتالي الدين العام يدور. من هنا نرى أهمية القرار الذي اتخذه وزير المال بإيقاف الإنفاق علّه (بنظرنا) يؤدّي إلى ضغط على الطبقة السياسية لإقرار الموازنة بسرعة أكبر.

 

باعتقادنا، التحدّي الأكبر للحكومة هو الوصول إلى موازنة تحوي عجزاً مساوياً بالحدّ الأعلى لعجز موازنة العام 2018، فهذا الأمر بحدّ ذاته هو مُعجزة إذا ما تمّ الوصول إليه. ويبقى السؤال، كيف يُمكن للحكومة تحقيق هذا الأمر؟

 

النموذج الهولندي يُعطي فكرة واضحة عن الإجراءات التي يُمكن للحكومة إتباعها. ومن هذه الإجراءات، أن تعمد الحكومة إلى خفض كل بنود الموازنة (دون إستثناء) بنسبة معيّنة (1 إلى 2%) مقارنة بالموازنة المُحقّقة في العام 2018.

 

والإجراء الآخر ينصّ على مُعالجة البنود بشكل مُنفصل، أي أخذ القرار بخفض بند الكهرباء بنسبة معينة، وبند الإنفاق التشغيلي بنسبة معينة وهكذا دواليك.

 

في الوقت نفسه تعمد الحكومة إلى مكافحة الهدر والفساد. إذ منها ما يُعطي نتيجة فورية (مثل التهريب الجمركي والتوظيف في الدولة) ومنها ما يُعطي مفعولاً على الأمد البعيد (التهرّب الضريبي).

 

بالتوازي مع هذه الخطوات، تظهر الحاجة بحسب مشروع الموازنة إلى فرض ضرائب أو رسوم جديدة بهدف تحقيق الهدف المنشود أي لجم العجز.

 

في الختام، يجب التنبّه الى أنّ المرحلة القادمة هي مرحلة خطرة ماليًا على لبنان، وقدّ تؤدّي إلى نتائج غير محمودة إذا تمّ التأخّر في إقرار موازنة للعام 2019 تحمل إجراءات تصحيحية حقيقية.