في مقال كتبته منذ نحو الشهرين تحت عنوان «الدوامة المفرغة»، ناشَدت الجميع الانتقال من الماكرو الى المايكرو في الاقتصاد، بمعنى أنّه إذا لم ننتقل الى معالجة التفاصيل الصغيرة التي تُهشل المستثمر لن نتمكن من زيادة النمو واستقطاب المستثمرين لتكبير حجم الاقتصاد، وما دام الجحيم اليومي في تعذيب كل صاحب عمل مستمراً، لن يتحوّل لبنان الى بيئة أعمال تنافسية تخلق فرَص عمل.
إنّ وزارة الاقتصاد الآن في صدد التحضير لدراسة جديدة بالتعاون مع شركة «ماكينزي» العالمية، وهذه خطوة أساسية في رسم معالم الخطوات المستقبلية، ولكنّ إبقاء الدراسة في المستوى العام لن يُقدم ويُؤخّر، ولا بد هنا من التذكير بأنّ مؤتمر الطاقة الوطنية اللبنانية LNE أعطى فكرة لا بأس بها عن الخطوط العريضة للتوجّه الاقتصادي العام، فالجميع متَّفِق على الخطوط العريضة في زيادة النموّ وإيقاف الهدر وتحويل اقتصادنا من الاقتصاد الريعي الى المنتج، وتحريك عجلة الاقتصاد.
كلّ هذا مُتوافَق عليه من الجميع ومطلوب حتماً، لكن في رأيي لن نصل الى نتائج فاعلة ما لم نغُص في أدقّ تفاصيل التعثّر الاقتصادي، وفرملة الاستثمار، وتيئيس كل صاحب مشروع أو فكرة، وتكبيد الصناعيّين وجَعَ الأعصاب اليومي من خلال إجراءات يومية يعيشونها تؤثّر في إنتاجيّتهم وتنافسيّتهم.
كتبتُ في مقالي السابق لائحة من هذه التفاصيل، منها أنّنا ما زلنا نستعمل الطابع الأميري على رغم أنّنا بدأنا بتطبيق ضريبة القيمة المضافة، وكأنّنا في بلد من القرون الوسطى، وأنّ كلفة وضع مستوعب 20 قدماً على ظهر باخرة هو 650 دولاراً، في حين أنّ كلفة الشحن من بيروت الى فيلسيتو مثلاً هي 225 استرليني، أي نحو 300 دولار. وكيف أنّ كلّ صناعي يريد أن يستورد قطعة غيار من خلال البريد السريع، يدفع رسوماً أكثر من قيمة السلعة المستوردة نفسها.
وأنّ كلفة الاتصالات في لبنان هي عشرة أضعاف ما هي عليه في أوروبا. ولماذا لا ننتج كهرباء كافية منذ 30 عاماً وعدم قدرتنا حتى الآن على إنتاج كهرباء بأسعار معقولة؟ وكيف نسجّل عقاراً أو مركبة آلية أو الرخص المرتبطة بالمركبة الآلية؟
وكيف يتمّ حجز فان للتوزيع لأنّ إسم الشركة مكتوب على الفان بلا ترخيص؟ الرسوم على العقارات، بلدية ومالية ورسم تسجيل وهي أصبحت الآن من الأغلى في العالم، مع الإصرار على عدم اعتماد التخمين المركزي. وكيف أنّه ممنوع علينا استيراد الإسمنت لبناء مصنعنا، وممنوع علينا استيراد كابلات الكهرباء من أجل مَدّ الكهرباء في المصنع وعلينا شراؤها من محتكرين.
كلّ ذلك وأكثر، لا تتناوله الدراسات العامة ولا تُعالجه لأنّ المسؤولين يبقونه قيد الكتمان، ولا يجاهرون به. إنّ هذه التفاصيل هي الأساس في بناء الدولة الفاعلة والمُنتجة. فلبنان يتراجع في مؤشّر التنافسية العالمية للعام 2017 حيث صُنِّف في المركز الأخير عربياً والـ105 على مستوى العالم، وسبب تراجعه هو التفاصيل التي ذكرتها.
فهل ستتناول الدراسة وضع الضمان الاجتماعي في لبنان فيما الدولة لا تدفع اشتراكاتها؟ والتقديمات التي يحصل عليها الموظف في القطاع الخاص ممكن تأمينها بأقلّ بكثير من اشتراكات الضمان، حيت يتحوّل الضمان الى ضريبة على المستثمر ولا يستفيد منها العامل بقيمتها الكاملة.
هل ستتناول الدراسة مثلاً أنّ من يحاول أن يكون له منطقة حرّة داخل مصنعه المعروفة بمستودع صناعي يأكله الروتين والبيروقراطية؟ وبحسب علمي لا يستفيد أيّ من الصناعيّين من هذه التسهيلات بسبب الروتين الإداري وإجراءات موروثة من العثماني، أو إذا كان تصديرك أكثر من بيعك المحلي ممكن أن تنتظر أكثر من سنة لاسترجاع الضريبة على القيمة المضافة.
هل ستحلّل الدراسة في حجم الرسوم التي صارت أكثر بكثير من الضرائب المباشرة والتي تضع عبئاً على صاحب العمل والمواطن والمستثمر على السواء؟
هل ستغوص الدراسة في موضوع غياب قانون السير والفوضى المرعبة التي نعيشها في لبنان وعدد القتلى الذي يصل الى 800 سنوياً وآلاف الجرحى، وهدر الوقت ومدى انعكاس ذلك على البيئة وتنافسية لبنان؟
هل ستتطرّق الدراسة الى مستوى الشفافية في الإجراءات العامة والرسمية، وأنّ قانون حرية الحصول على المعلومات لم يطبّق بعد ولم توضَع مراسيمه التنفيذية، ولم يتم تبليغ المؤسسات بضرورة البدء بالتنفيذ، ولا نيّة حقيقية في وضعه حيّز التنفيذ، وكأنّ إقراره كان شكلياً فقط لإسكات الأصوات المطالبة به والإيحاء بأنّ لبنان يخطو خطوات نحو الشفافية؟
هل سيُسمح للدراسة بالغوص في المناقصات والتلزيمات من وزارة الاتصالات الى مجلس الإنماء والإعمار، وتحليل أثر العشوائية في هدر المال العام، جسر بحمدون الفضيحة مثالاً والذي نجا المتعهّد القديم من المحاسبة على تكبيده الدولة أموالاً مهدورة، وتكبيده المواطن سنوات من تعب الاعصاب؟ هل ستفهم شركة «ماكينزي» كيف أجهَضت مناقصة النفايات في بيروت وكيف تحوّلت الأشغال الى شركة محدّدة من دون إجراء مناقصة قانونية وعلنية؟
هل ستجرؤ الدراسة على تحليل فترة الإقفال والعطلات وإقفال المرافق الأساسية في لبنان على مَدار العام ومدى انعكاس ذلك على الإنتاجية العامة وتأخير الاعمال؟ وهل ستعرض الدراسة للوقت المهدور في إتمام المعاملات الرسمية على أنواعها والسَمسرات والرشاوى التي ترافقها، وجهل أيّ مستثمر جديد للآليات القانونية لهذه المعاملات، وهو تجهيل مقصود بقصد الإبقاء على عمل السماسرة وأسيادهم؟
أخيراً، من الواضح أنّ أيّ دراسة اقتصادية لا تتناول معضلة التعليم والمفروض أن يكون بمستوى معقول ومتوافر للجميع، وتعليم ومناهج متطوّرة تهدف الى إيصال الطالب الى فرصة العمل (الانتاج) المتوافرة في لبنان مباشرة لن تنجح. وقد يكون هذا الموضوع هو الموضوع الأهمّ اقتصادياً.
نعم الشيطان يكمن في التفاصيل، والتفاصيل هي بُنية الاقتصاد، السياسات العامة تسقط وتنهار إذا كانت الأدوات الصغيرة عاجزة عن العمل بفعالية. فلنعِد تفعيل وتنظيف عدة عمل الاقتصاد.