لأن الظاهرة الإرهابية، المتمثلة بـ«داعش» وغير «داعش»، قد تضخمت كثيرا، ولأن التعامل الأميركي والغربي مع هذه الظاهرة بدأ قاصرا والمتوقع أنه سيبقى قاصرا إذا بقيت الأمور تسير على هذا النحو وبهذه الطريقة، فإنه لا بد من أن يتولى العرب هذه المسألة المصيرية بأيديهم، فالمستهدف أساسا هو المنطقة العربية، وهو، إذا أردنا المزيد من الدقة، هذا الإقليم الشرق أوسطي كله وفي مقدمته تركيا التي تعتبر جبهة أساسية أمامية ملتهبة، والتي، إذا أردنا قول الحقيقة، تنام على ألغام كثيرة ستنفجر كلها دفعة واحدة إذا لم تكن هناك مواجهة شاملة مع هذه الآفة التي غدت زاحفة في كل الاتجاهات وفي العالم بأسره.
ولهذا، فإنه على العرب أولا: ألا يكونوا مبعثرين على هذا النحو المرعب، فالمثل يقول إن «الذئب يفترس الشاة المطرفة». وثانيا أن يتحرك المقتدرون منهم لتشكيل ما يمكن تسميته «رافعة» تكون جدار استناد لمواجهة هذا الخطر المرعب الزاحف الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء والذي إن لم تكن هناك وقفة جدية، فإن ما يجري في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن، سينتقل حتما إلى دول أصبحت تعاني معاناة فعلية من ظاهرة الإرهاب «الإلكتروني» ومن ظاهرة الخلايا التي لم تعد نائمة.
إن المقصود بـ«العرب المقتدرين» هو: المملكة العربية السعودية، ومصر، وهو: المملكة الأردنية الهاشمية، والمملكة المغربية، وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، وهو أيضا تركيا؛ هذه الدولة التي لا يجوز أن تستمر، بالنظر إلى المنطقة العربية، من خلال حزب سياسي هو جماعة الإخوان المسلمين التي أقحمت هذه المنطقة في كل هذه التوترات، وفي مرحلة تاريخية تقتضي الاصطفاف الدفاعي وتغليب الأساسي والرئيسي على الثانوي، وتأجيل المناورات والألاعيب السياسية إلى فترة يصبح فيها مجال لترف المحاكمات والمناورات الحزبية التي ساهمت في إيصال الأحوال العربية إلى ما وصلت إليه.
في ذروة انتصار حزب العدالة والتنمية بقيادة هذا النجم المتألق الصاعد رجب طيب إردوغان، ولكن إلى متى؟! رفع رئيس الوزراء التركي الحالي ووزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو شعار «تصفير الخلافات»، ولكن المؤسف حقا أنه جرى «تصفير الصداقات»، وغدت هذه الدولة العظيمة تنظر إلى دول هذه المنطقة من خلال ثقب الإخوان المسلمين، فانهارت علاقاتها مع مصر، التي هي واسط الخيمة العربية، إنْ في هذا العهد الواعد، وإن في كل العهود السابقة، وتراجعت حتى حدود القطيعة مع دول أخرى.
وحقيقة فإنه غير مقبول أن يختطف الإخوان المسلمون تركيا على هذا النحو، كما أنه، وفي الوقت ذاته، غير مقبول أن يستسلم العرب لهذا الاختطاف وإلى تردي العلاقات مع دولة محورية وأساسية في هذه المنطقة وفي العالم بأسره تربطنا بها علاقات تاريخية امتدت لأكثر من 4 قرون متلاحقة، ويربطنا بها، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية الواعدة، الدين الإسلامي الحنيف، والأمن الإقليمي المشترك المتمثل حاليا في مواجهة هذا الإرهاب المتفشي الذي يهدد تركيا ويهدد الدول العربية كلها.
إنه على العرب المعنيين أن يبادروا إلى الخطوة الأولى، فالجفاء يورم القلوب، والبعد يؤدي إلى مزيد من تراكم السلبيات، والمفترض أن تكون البداية الاتفاق مع «الأشقاء» الأتراك، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب إردوغان على إبعاد التأثيرات الحزبية السلبية عن العلاقات المصرية – التركية؛ إذ دون تصحيح العلاقات بين هذين البلدين، ودون «تصفير» الخلافات بينهما، ستكون هذه المنطقة الشرق أوسطية مكشوفة كلها للإرهاب ولإسرائيل، وأيضا لبعض أصحاب الرؤوس الحامية في إيران الذين كان أحدهم قد أعلن قبل أسابيع قليلة وعلى رؤوس الأشهاد عن أن 4 عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، باتت تابعة للعاصمة الإيرانية طهران وتدور حولها.
إن المفترض أن يسعى «الأشقاء» الأتراك إلى إعادة الإخوان المسلمين المصريين إلى الحياة السياسية المصرية؛ إذ إن ما فات مات، وإن هناك واقعا مستجدا سيستمر بالتأكيد لأجيال متعددة قادمة؛ وإذ إن الإرهاب الذي يضرب مصر الآن باسم «أنصار بيت المقدس» سينتقل حتما إلى تركيا إن لم يتم القضاء عليه بسرعة، فهي، أي تركيا، مستهدفة أيضا، وبالتالي، فإنها معنية بإطفاء جمر التطرف المتأجج في أرض الكنانة وفي سوريا والعراق وليبيا واليمن، وهي معنية أيضا بـ«تصفير الخلافات» وبإذابة الجليد السياسي المتراكم بينها وبين القاهرة وبينها وبين الرياض وعمان والرباط.
لقد بقيت تركيا تقرع أبواب الغرب الأوروبي لنحو نصف قرن وربما أكثر دون أي جدوى ودون أي فائدة أو أي إنجاز، وهذا من المفترض أن يجعلها تدرك أن مجالها الحيوي الاقتصادي والسياسي هو الجنوب الذي تربطها به علاقات متجذرة قديمة، هذا بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية الواعدة، وبالإضافة إلى ضرورة تشكيل جبهة موحدة للقضاء على هذا الإرهاب الأعمى الذي غدا يخبط خبط عشواء والذي لن يوفر أي دولة رئيسية من دول هذه المنطقة.
وهنا، وحتى لا يفهم البعض أن المقصود هو تشكيل تحالف ضد إيران، فإنه لا بد من القول إن المفترض أن تكون جمهورية إيران الإسلامية جزءا من هذا التحالف، أو التكتل، الذي يجري الحديث عنه، والذي لا بد من بلورته في أقرب فرصة ممكنة، ولكن بعد أن تتخلى عن كل محاولاتها التمددية في هذه المنطقة وتتخلى عن تدخلها السافر في الشؤون الداخلية للعراق ولسوريا ولليمن وللبحرين.. إن كل الدول العربية؛ وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، تريد علاقات أخوة وعلاقات مصالح مشتركة مع هذه الدولة المسلمة، المجاورة منذ بداية التاريخ، لكن المشكلة تكمن في أن الحب من طرف واحد لا يفيد، وأن التقارب يقتضي تلاقي الإرادتين؛ إرادة العرب وإرادة الإيرانيين. وحقيقة فإن هذا ممكن وغير مستحيل، ولكن بشرط أن تبادر طهران إلى تصفير خلافاتها مع «أشقائها»، وأن تكف عن تطلعاتها الفارسية الإمبراطورية الطائفية، وأن تقبل بالعيش المشترك الآمن في هذه المنطقة الواسعة التي من المؤكد أنها تتسع للجميع.
ثم، وعود على بدء، فإن التحديات التي تواجه العرب وتواجه تركيا، على اعتبار أنها دولة رئيسية ومحورية في هذه المنطقة الملتهبة، تتطلب سعيا دؤوبا لتطويق الخلافات المصرية – التركية التي لو تم تحييد تأثير الإخوان المسلمين فيها لتحولت إلى صداقات حميمة، وتتطلب أن تأتي المبادرة من قبل الدول العربية المعنية؛ مصر والمملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، فهناك تحديات كثيرة من بينها، بالإضافة إلى تحدي الإرهاب والتطرف، تحدي القضية الفلسطينية، ومن بينها ضرورة التخلص من هذا النظام السوري القاتل والحفاظ على هذا البلد العربي موحدا جغرافيًا وديموغرافيًا، ومن بينها أيضا ضرورة مساندة العراق ومساعدته للتخلص من كل هذه الأوضاع المأساوية التي يغرق فيها، وضرورة منع اليمن من الانزلاق إلى التشرذم والعودة إلى التشطير بعد نحو ربع قرن من الوحدة.
إن هذه المرحلة هي أخطر مراحل التاريخ العربي الحديث، ولذلك فإنه لا بد من تطوير التنسيق الحالي بين مصر والمملكة العربية السعودية والأردن والمغرب وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، والارتقاء به ليقترب من الوحدة السياسية التكاملية القادرة على مواجهة التحديات الآنفة الذكر؛ وأخطرها تحدي التطرف والإرهاب الذي بات يتمدد في المنطقة تمدد ألسنة النيران بالهشيم.