حين يوصّف المفكّرون النّظام النيوليبرالي بأنه “اقتصاد الكازينو”، فإنّ للتعبير هنا أكثر من معنى. الكازينو مكانٌ برّاق، جذّابٌ، يشعّ بالوعود؛ وهو ايضاً ليس مكان انتاجٍ وعمل وكدّ، بل مالٌ وفيرٌ يأتي من لامكان، وعدٌ للجميع بامكانية الثراء السّريع، وطريقٌ مختصرة الى النجاح والى حلّ كل مشاكلك بـ”ضربةٍ” واحدة.
يتهافت النّاس على الكازينو وقد شدّهم الإغراء، ولكن ــــ لأسباب واضحة وبنيوية ــــ من المستحيل أن يوزّع الكازينو الثراء على الجميع، وهنا نجد خاصيته الثانية، وهي أن “اقتصاد الكازينو” يقسم الناس الى “رابحين”، محظوظين قلائل، والى عددٍ كبير من “الخاسرين”. وانت، ما أن تخطو الى ردهة الألعاب، حتى تفهم أن الناس من حولك ليسوا “شركاء” لك ولا أصدقاء، ولا مجال لأن تعملوا سوية وتتعاونوا، بل هم لاعبون منافسون، في فوزهم خسارة لك والعكس بالعكس (الوحيد الذي يربح بانتظامٍ وبشكلٍ مضمون هو مالك الكازينو ومن يصنع قواعد اللعبة ويتحكّم بها).
الحقوق أوّلاً
عقليّة “الكازينو” هذه قد ألهبت مخيّلة اللبنانيين منذ نهاية الحرب الأهلية، ودفعت سياسيّيهم الى رهاناتٍ لا تحصى. ترافقت نهاية الحرب في أوائل التسعينيات مع “قناعةٍ” نشأت لدى الطبقة السياسية، وانتقلت الى الفئات الشعبية، بأنّ إعادة الإعمار ستكون يسيرة، وأننا لن نضطرّ الى دفع كلفة حربنا، أو أن نعمل ونتعب ونضحّي لتعويض ما دمّرناه، بل أنّ المساعدات ستنهال على لبنان بالمليارات، وأن المنطقة مقبلة على “سلام”، والإزدهار سيسقط عليها من السماء (هكذا قال شيمون بيريز). وحين تبيّن أن كلّ هذه الافتراضات كانت أوهاماً، وبدأنا بالإصطدام بحقيقة وضعنا وصعوبته، جاء رفيق الحريري ــــ وخلفه وعود المال السعودي والرضا الأميركي ــــ ليجّنبنا، مجدّداً، الاعتراف بالواقع ومواجهته. أمّا اليوم، فقد أفلس الكازينو.
السؤال الآن لا يتعلّق بالتشهير، أو بالمحاسبة، أو أخذ العبرة (فهذه لها وقتها). ولكنّ هناك، أوّلاً وقبل كلّ شيء، حساباً يجب أن يُصفّى، وقضيّة آلافٍ من اللبنانيين، آمنوا بـ”مشروع الحريري” وعملوا في مؤسساته وساهموا في صنعه، وهم اليوم يخرجون من الـ “حلم” خالي الوفاض، بل وقد حُبست عنهم حقوقهم. المسألة ليست قانونيّة أو “انسانية”، بل سياسية في المقام الأوّل. فسعد الحريري، الذي يدّعي تمثيل هؤلاء الناس وقيادتهم والعمل لصالحهم، يحمل مسؤولية سياسية تجاههم ولا يجوز أن يكون مديناً لهم، وأن يماطلهم في حقّهم، وأن يهين كرامتهم (كأي رجل أعمالٍ آخر). بتعابير مختلفة وبمزيدٍ من الوضوح: لا يحقّ لسلالة الحريري صرف درهمٍ واحدٍ، طالما أن عمّالها مشردون بين لبنان والسعودية؛ لا يحقّ لهم أن يعيشوا حياةً من التّرف. المال الذي ينفقونه ليس حلالاً، كلّ ادّعاءات الزعامة بلا قيمة، كلّ مبادرة سياسية لا شرعية لها ــــ بل إنّ الطّعام الذي يأكلونه ليس من مالهم ــــ حتّى يدفعوا لهذه العائلات، قبل أي شيء آخر، ما يدينون لهم به. هؤلاء النّاس صوّتوا لهم وقاتلوا من أجلهم، ورفعوهم على ظهورهم وجعلوا منهم زعماء، ولا يحقّ لسعد الحريري، مهما كانت الظروف، أن يعاملهم بهذه الطريقة.
“كازينو الإعلام” في لبنان
قطاع الصّحافة والإعلام في لبنان هو المرتع الأوّل والأوضح لنموذج “الكازينو”. مهنة الصّحافي هي تكثيفٌ لثقافة ما بعد الحرب الأهلية، حيث يعلّق اللبناني الطموح آماله وأحلامه على ايجاد راعٍ ثريّ، أو راتبٍ خليجيّ كبير، أو منصبٍ في الدولة ــــ أو أن “يضرب ضربة” تنقله الى الطبقة الأعلى. هذا الرّهان، على أيّ حال، هو ما اجتذب أكثر ناشطي اليسار الى المعسكر الآخر بعد 14 آذار 2005، ومع تدفّق المال السياسي، الذي جعلهم “إعلاميين” و”نجوماً” و”ناشطين” براتب. في لبنان، لا يتساءل الصحافيون “المحظوظون” ما إن كانت مؤهلاتهم وانتاجهم تبرّر رواتبهم الكبيرة، وإن كانت هذه رواتب حقيقية يفرضها السوق، وهي مقابل عملٍ وجهد، أم “رشاوى” لأداء خدمات سياسية؛ وما إن كان أسلوب حياتهم هذا ــــ يموّله الدفع السياسي وطموحات الخارج والحروب والصراعات ــــ هو نمطٌ منطقيّ وقابلٌ للإستمرار (وإن استمرّ، فهل هي حياةٌ جيّدة وتستحق؟).
المال السياسي الذي أنفقه آل الحريري في لبنان كان سعودياً، وهم وسطاء
لهذا السّبب، حتّى “الفضيحة” في لبنان لها مقاييس سياسيّة، فيعتاش الإعلاميون ومجتمعهم لمدّة اسبوعين، مثلاً، على تصريحٍ لجبران باسيل، ويتناولونه من كلّ الزوايا الممكنة، ويؤلّفون النكات والأغاني. ولكنهم لا يجدون فضيحةً في أن يدفع الحريري لموظّفيه الفرنسيين (وهم بالمئات) كلّ رواتبهم المتأخّرة، والسارية، وتعويضاتهم كاملة ــــ لأن السفارة الفرنسية طلبت منه ذلك ــــ فيما مواطنوه مهددون بالسّجن والإهانة والترحيل. تعويضات مئات الفرنسيين توازي، من دون شكٍّ، حقوق الآلاف من نظرائهم اللبنانيين. الفرنسيون، اذاً، توسّطت لهم دولتهم، والسعوديون ستتكفل بهم حكومتهم، فمن يتوسّط للّبنانييّن؟ وهل ذنبهم أن قائدهم السياسي هو سعد الحريري؟ وما هي الرّسالة التي يوجّهها، بهذه الطريقة، الى شعبه؟ لبنان أوّلاً؟
المشكلة هي أنّ آل الحريري لم يكتفوا بالإفلاس، وصرف من يعمل معهم وتصفية حقوقهم؛ بل وضعوا آلافاً من العائلات، منذ ما يقارب العام، في وضعٍ لا يحتمل. فلا هم يدفعون رواتبهم ولا هم يصرفونهم، فيضحي الموظفون بمقام الرّهينة، مثقلين بالديون المصرفية، لا يقدرون على المطالبة بحقّهم ولا على انتقاد من يظلمهم. بل أنّ من صُرف أخيراً من مؤسسات “المستقبل” لم تدفع تعويضاته وأُعطي وعوداً بتحصيلٍ لاحق (تماماً كالرّجل السيّئ، يماطل زوجته في شكليّات الطّلاق ليبقيها تحت هيمنته وسلطته حتّى آخر لحظة ممكنة). لا أعتقد أنّه قد مرّ في تاريخ لبنان الحديث أن أذلّ هذا العدد من العمّال، في لقمة عيشهم وبديهيات حقوقهم، بهذا الشّكل. ولهذا ايضاً، من المفترض أن يقع واجب الضغط على هذه المؤسسات وأصحابها (“النهار” هي في الفئة نفسها) على الزملاء خارجها، وأن يكونوا صوتاً لمن هو في الداخل ولا يقدر على الإعتراض، ولكن “الزملاء” مشغولون بجبران باسيل.
مواطنون لا أقنان
أنا اختلف هنا، بالقطع، مع الزميل ابراهيم الأمين الذي دعا المستفيدين من منح “مؤسسة الحريري” الدراسية الى المساهمة في سدّ الأزمة المالية لسعد الحريري. فالدائن هنا واضح، والمدين واضح، والأمر لا يحتاج الى “لمّة”. المشكلة ليست في نقص المال، وحقوق اللبنانيين ليست هائلة مقارنة بديون “اوجيه”، بل في فساد الأولويات وعدم احترام “الرعايا”. كما أنّ المال السياسي الذي أنفقته سلالة الحريري في لبنان كان سعودياً، وهم وسطاء، وقد قبضوا الثمن أضعافاً ولا أحد يدين لهم بشيء. المفارقة هنا هي أنّ المنح والقروض الدراسية، لو كانت سياسة “خيرية” مستمرّة الى اليوم، لشكّل انهيار “أوجيه” كارثةً حقيقية على المجتمع اللبناني؛ ولكنّ المنح المذكورة سرت لسنوات قليلة، ثمّ تم تحصيل ثمنها السياسي، واختفت كأنها لم تكن. للمقارنة وحتى نخرج من المقاييس الإقطاعية: لا بدّ من أنّني ــــ كالكثيرين غيري ــــ قد كلّفت الجامعات الأميركية ووقفياتها ما مجموعه مئات آلاف الدولارات، منحاً وزمالات وهبات. وقد تعلّمت لسنوات وعشت وتسكّعت على حسابها. ولا يمكنني أن أتخيّل أن يجيئني السيد “حسن طاهر” اليوم، ليبلغني بأنه كان مصدر منحتي في جورجتاون، وأن واجبي الآن أن أصوّت له في الانتخابات، وأتبع أولاده من بعده، وأساعدهم في عثراتهم المالية (أنا لا أعرف، بصراحة، من هو السيد طاهر، ولكن طُلب مني أن أكتب له رسالة شكر بسيطة في نهاية البرنامج، ولم أفعل).
الأمر اليوم لا يحتاج الى شجاعة، وقد صار يتمرّد على آل الحريري من كان يعمل لديهم، ويتجرّأ على أكبرهم من كان ينحني أمام أصغرهم، ولكن هناك حاجة الى الوضوح. فلتُدفع الحقوق الى أصحابها أوّلاً وقبل كلّ شيء، ثمّ نتكلّم في السياسة. سيُكتب الكثير، في المستقبل، عن رفيق الحريري وإرثه في لبنان، وكيف أعاد تشكيل الطبقة العليا بأكملها، وعن فكرته عن “التنمية” وكيف تراكمت الدّيون (وقد يكون من الممكن تبرير أو تفسير بعض هذه الخيارات الاقتصادية، ولكن مسؤوليتهم السياسية عن نقل مئات آلاف اللبنانيين بعيداً عن موقعهم الوطني، ودورهم في حرب 2006 وسوريا، هو ما لا يمكن غفرانه). على الرّغم من هذا كلّه فأن تنتهي القصّة، وأن يسدل الستار على هذه السلالة، وهي مدينة لعموم الناس، وفي ذمّتها حقوقٌ لفقراء، فهو ما لا يُعقل ولا يُطاق.