IMLebanon

للمواءمة بين الإقتصاد الحر ودولة التكافل الإجتماعي

 

«عمّال وفلاحين وطلبة دقت ساعتنا وابتدينا

نسلك طريق ما لوهش راجع والنصر قرب من إيدينا»

أحمد فؤاد نجم

«تاريخ المجتمعات هو تاريخ صراع الطبقات»

كارل ماركس (مقدمة «رأس المال»)

 

كارل هينريش ماركس (5 ايار 1818 – 14 آذار 1883) هو أحد فلاسفة القرن التاسع عشر الثوريين الأكثر تأثيراً على مسار النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

 

لقد آمن ماركس أنّ الرأسمالية، مثلها مثل سابقاتها من الأنظمة الإقتصادية، سوف تخلق قدراً من الاحتقان الداخلي الذي سيؤدي الى انفجارها، وكما حلّت الرأسمالية مكان الإقطاعية، ستحل الشيوعية مكان الرأسمالية. أهمية الشيوعية أنها خالية من الطبقات، حيث تمر في مرحلة ثورية عنوانها ديكتاتورية البروليتاريا (الطبقة المنتجة) تؤدي الى المشاعية المعروفة بـ«اليوتوبيا»، وقد صرّح ماركس «أنّ سقوط البرجوازية وانتصار البروليتاريا هما حتمية تاريخية».

 

لقد بقي ماركس في حياته في المانيا وحتى مماته في لندن شخصاً محدود الشهرة، لكنّ أفكاره بدأت تتفاعل بين أوساط المثقفين الثوريين بُعَيد وفاته. ومع أنّ الحتمية التاريخية، وتوقعات ماركس نفسه، كانت تفترض أن أولى ديكتاتوريات البروليتاريا ستظهر في انكلترا، أو ربما ألمانيا، حيث وصلت الطبقة الرأسمالية الى مرحلة النزاع مع البروليتاريا، بعد تضخم حجم الطبقتين إثر تقدم الثورة الصناعية، لكن يأتيك بالأنباء من لم تُزوّدِ، عندما زرعت اولى ديكتاتوريات البروليتاريا في روسيا الزراعية الإقطاعية مع ثورة أكتوبر البلشفية، متجاوزة كل الحتميات التاريخية.

 

فروسيا كانت إجمالاً بعيدة جداً عن الدخول في مرحلة الرأسمالية وكانت لا تزال متجذرة في الاقطاعية، وكان سواد سكانها الأعظم من طبقة الفلاحين والأقنان، ولم تتركز طبقة البروليتاريا إلّا في بعض المدن الرئيسة. ومع ذلك، فقد ركّبت مجموعة من البرجوازيين الصغار الثوريين نزاعها مع الإقطاع على عربة الماركسية.

 

في النتيجة، وبدلاً من أن تنشأ ديكتاتورية البروليتاريا، تمّ إنتاج ديكتاتورية وحشية لطبقة من المغامرين والطفيليين لم يلبثوا أن التهموا بعضهم بعضاً ليبقى من هم الأكثر بطشاً، حتى أدخلوا العالم في نزاع دموي وايديولوجي على مدى ثلاثة أرباع القرن، قضت هذه الديكتاتورية على الحلم المشاعي وأعطت الفرصة للرأسمالية لتطور أسلحتها وتخرج منتصرة.

 

لو راجعنا تاريخ هذه الحقبة حتى في معاقلها في المعسكر الشرقي، لوجدنا انّ الضحايا الأهم لهذه الديكتاتورية، كانوا بالاضافة الى الأدباء والمفكرين والمبدعين، هم العمال أنفسهم الذين رزحوا تحت وطأة فقدان الأمل، وهو أسوأ أنواع الفقر والمعاناة في العالم.

 

ولكن هذا الواقع لا يجب أن ينسينا نضالات الملايين من العمال والمثقفين الثوريين والإنسانيين في العالم، تحت لواء الماركسية اللينينية والتروتسكية والماوية وغيرها من التفرعات، لتحسين أوضاع الطبقة العاملة على مدى الكرة الأرضية. لقد استفادت الحركة العمالية من الأفكار الثورية لتشكل لها دينامية نضالية أدّت بالتأكيد الى مكاسب هائلة للطبقة العاملة على مدى القرن الماضي، كان جزء منها نتيجة للضغط العمالي والجزء الآخر في حركة استباقية للرأسمالية تفادياً لتزايد الاحتقان الطبقي الذي يؤدي الى حتميّة الإنفجار كما قال ماركس.

 

ولكنّ المعضلة الثانية كانت في وقوع الحركة الشيوعية في مرحلة جمود عقائدي، في مخالفة صريحة لمبدأ الدياليكتيك، وهو أحد المبادئ المؤسسة للماركسية، فتحوّلت الفلسفة الى عقيدة، والعقيدة الى دين جديد (أفيون الشعوب) غير قابل للنقد او المساءلة، وتحوّل أمناء الحزب العامون الى أنبياء معصومين ورؤساء اجهزة المخابرات الى آلهة يحيون ويميتون من شاؤوا، وتحولت جثامين المؤسسين المحنطة الى مزارات مقدسة أين منها مقامات الأولياء والقديسين! وأصبح كل نقد ذاتي، وهو واجب حزبي، امّا مشروع انفصال حزبي أو مقدمة لسلسلة من الإعدامات.

 

بناء على ذلك، فمع النجاح الإعلامي والعملي الذي لقيته الحركة الشيوعية على مدى خمسة عقود من الزمن، فإنّ الحتمية التاريخية الوحيدة الظاهرة كانت انهيار هذه التجربة أمام حتمية أخرى هي قيمة الفرد وحريته ومبادرته كأولوية على الغوغاء الجماعية، من طبقية وقومية ودينية وغيرها من العقائد التي تجعل من الإنسان مجرد رقم في مجموعة بدلاً من أن يكون قيمة في حد ذاته.

 

وهنا يبرز منطق الليبرالية الإجتماعية بديلاً إنسانياً يؤكد حرية الفرد ومبادرته كأولوية، مع ضوابط تتمثّل بمبدأ الرعاية الإجتماعية المقوننة لتحد من الوحشية الفردية التي هي أساس للرأسمالية الأنانية. هذا المنطق الذي يستفيد من التجارب الماضية ومن نضال الملايين من الناشطين في الفكر والعمل على مدى القرن الماضي، قد يكون أحد الوسائل لدخول يوتوبيا جديدة شعارها التكافل والاستقرار والنمو بدلاً من نزاع الطبقات.

 

قد يكون تبسيطاً للأمور أو حلماً «طفولياً ثورياً» أو «طوباوية»، كما يحلو للرفاق العقائديين تسميته، ولكنّ الواقع هو أن أكبر الإنجازات تبدأ بالأحلام.