لا نغالي إذا قلنا ان الرئيس نبيه بري من آخر الكبار في هذا الوطن، ففي كل مرة تعصف أزمة سياسية ويضيق الخناق على الدولة والمؤسسات ويلوح شبح الفراغ والفوضى والمجهول ، يكون هذا الرجل في طليعة المتصدين والمبادرين، مثبتاً قدرة فائقة في تدوير الزوايا واجتراح الحلول والتسويات والمخارج وفي احتواء الأزمات وتصريفها. وهذا ما لا يقدر عليه إلا من يتمتع بصفتين وميزتين:
الاولى: ان يكون لبناني الهوى وطنياً في مبادئه وممارسته وسلوكه، حكيماً في أدائه، مغلباً المصلحة الوطنية العليا على ما عداها ومبدياً ولاءه للوطن على أي ولاء آخر، وساعياً إلى حفظ الوحدة الوطنية وأصول الشركة في الدولة والحكم.
الثانية: ان يكون مدركاً لطبيعة وخصوصية التركيبة اللبنانية ولكيفية التعاطي معها، وقادراً على إدارة التوازنات والتناقضات والخلافات بمهارة وجدارة. ويعتنق سياسة الحوار والاعتدال والانفتاح نهجاً وممارسة، ولديه الفهم العميق للواقع اللبناني والخبرة المكتسبة على مرّ سنوات وعقود.
آخر ما قام به نبيه بري من «انجازات» هو التمديد لمجلس النواب . وعندما اقول «انجازاً» فإني اعني ما اقول لأن بري جنب البلاد فراغاً ومأزقاً شاملاً، واستطاع تمرير التمديد بدقة وسلاسة مع تأمين «الميثاقية» على صعيد المشاركة المسيحية من خلال حضور كتلتي نواب القوات والمردة لهذه الجلسة، نعم استطاع تمرير التمديد للمجلس النيابي بأقل خسائر ممكنة وفي اصعب واخطر ظرف تمر فيه المنطقة وفي ظل أدنى استقرار أمني في لبنان ، وأقصى توتر مذهبي، وتعذر انتخاب رئيس جمهورية، وفي ظل معلومات متضاربة حيال ما سينتج من مفاوضات الغرب مع ايران حول برنامجها النووي ، ومع عدم وجود لبنان على سلم الألويات الاقليمية انتظاراً لما سيؤول إليه التفاهم الايراني – السعودي.
إذن لولا الجهود التي بذلها الرئيس بري مع جميع المخلصين لكنّا امام احدى هاتين النتيجتين: اما تعثر عملية التمديد والذهاب الى الفراغ القاتل على كل المستويات واما التمديد من دون مشاركة مسيحية وبمعزل عن كل القوى والاحزاب المسيحية وهذا ما يعيدهم عشرين عاماً الى الوراء عندما جرت انتخابات نيابية وانتخب اول مجلس نيابي بعد الطائف من دون مشاركة المسيحيين بسبب مقاطعتهم الرسمية والعلنية لهذه الانتخابات.
اذن حسناً فعل نبيه بري عندما تجاوز كل المزايدات ليمنع حالة الفراغ القاتل ويمنع دخول البلاد في المجهول … لكن هذه الجهود لا يجب ان تقف عند هذا الحد لأن التمديد يجب ان يكون مدخلاً الى تصحيح الخلل القائم الذي يبدأ بضرورة السعي مع كل المخلصين لانتخاب رئيس للجمهورية في اسرع وقت ممكن، مروراً بوضع قانون جديد للانتخابات يكون عادلاً ومتوازناً ويؤمن تمثيلاً شعبياً صحيحاً فلا تهيمن فئة على أخرى ولا تمد طائفة يدها إلى جعبة طائفة أخرى ولا تتدخل في شؤونها الداخلية ولا تصادر أو تضعف مشاركتها في الحكم والقرار الوطني.
في كل هذه الاستحقاقات والملفات للرئيس بري دور اساسي ليس فقط على صعيد اتمامها وانجازها وانما خصوصاً على صعيد طمأنة المسيحيين واشعارهم انهم شركاء حقيقيون في هذا الوطن وانهم في اساس وصلب الدولة والحكم وصناعة القرار الوطني وانهم ليسوا على الهامش «وزيادة عدد» .
دولة الرئيس … انطلاقاً من قناعتي بانك كنت ولا تزال صمام الامان في هذا الوطن اسمح لي بأن اتوجه اليك لأقول لك بكل محبة واحترام ان المسيحيين ما زالوا يعيشون حالة القلق والشكوى والشعور بالغبن والاجحاف، وهذه الحالة لم تفارقهم بعد على رغم مرور 25 سنة على اتفاق الطائف وعلى رغم انتهاء زمن الوصاية في لبنان … آن الاوان كي نتصارح كلبنانيين ونكشف اوراقنا على طاولة الحوار ونقول في العلن وعلى الملإ ما نقوله في السر والغرف المغلقة … فإما ان نعتمد اتفاق الطائف كتسوية تاريخية ونطبقه نصاً وروحاً، قولاً وفعلاً، موقفاً وممارسة … وإما ان نبحث عن صيغة وتسوية اخرى مبنية على العدالة والمساواة والتوازن لا تشعر فيها طائفة انها واقعة تحت ظلم او قهر او انتقاص من حقوقها من جراء هيمنة طوائف لبنانية آخرى .
اما إذا اردنا اتفاق الطائف اتفاقاً نهائياً لوطن نهائي، وجب علينا تطبيقه كاملاً دون اجتزاء وانتقاء، بحيث نكون منسجمين مع روحيته وغايته الاساسية وهي تأمين مقتضيات وديمومة العيش المشترك على قاعدة احترام التوازنات والخصوصيات لكل طائفة من الطوائف اللبنانية . وهذا يتطلب بالدرجة الاولى تصحيح قانون الانتخابات وتعديله كي يتمكن اللبنانيون وعلى مختلف طوائفهم ومذاهبهم من انتخاب من يمثلهم حقيقة ويحمل قضاياهم وتطلعاتهم، لأن قانون الانتخابات هو المدخل الى حياة سياسية سليمة وتوازن وطني وفعلي يستطيع فيه المواطن محاسبة ممثليه الذين يختارهم في كل دورة انتخابية . كما يتطلب تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية بما يتناسب مع مسؤولياته المنصوص عنها في الدستور وبما يؤمن له استعادة موقعه في المعادلة وتأدية دوره كحاكم وحكم … اضافة الى تطبيق اللامركزية الادارية الموسعة لتطبيق العدالة بكل ابعادها الانمائية والاجتماعية والاقتصادية.
اما اذا كان التطبيق الكامل والصحيح للطائف غير ممكن وغير متيسر لأن قوى او طوائف اعتادت هذا الوضع الشاذ الموروث من حقبة الوصاية، عندئذ يجب ان تكون لدينا جميعاً شجاعة وارادة الانتقال الى نظام جديد وصيغة جديدة تحفظ الخصوصيات والتوازنات والتعددية والتنوع من دون التفريط بالاساسيات وكل ما يتعلق بالوحدة الوطنية والعيش الواحد. وعندها فليكن حوار صادق وصريح من دون عقد ومن دون قفازات ولتطرح الامور كما هي ولتسمَّ الاشياء بأسمائها.
دولة الرئيس … علينا جميعاً ان نعرف ان اللبنانيين سواسية في الحقوق والواجبات ولا تفريق ولا مفاضلة بينهم، ولا تمييز ولا امتياز لأي فريق لبناني على آخر… والمسيحيون شركاء فعليون في هذا الوطن، والشركة مثل كل القيم والمبادىء لا تحتمل انصاف حلول والواناً رمادية.
ولأن الوضع على هذه الدرجة من الدقة والخطورة، ولأن الملفات على هذه الدرجة من التعقيد والصعوبة، فإن الامر يستأهل حواراً وطنياً باستعدادات طيبة وآفاق مفتوحة. ومن ادرى بالشعاب اللبنانية وبشؤون الحوار وشجونه، بتعرجاته ومندرجاته غير نبيه بري الذي كان دوماً السبّاق والمبادر الى البحث عن تسويات ومخارج للأزمات الطارئة التي وللأسف تراكمت وتكدست لتصبح ازمة حكم ونظام .
دولة الرئيس … ان ما تقوم به من جهود من اجل قيام حوار بين حزب الله وتيار المستقبل هو عمل ايجابي وجيد ومشكور ومطلوب خصوصاً في هذه الظروف التي تستوجب اطفاء نار الفتنة المذهبية ومنع انتقال الصراع (السني- الشيعي) الدائر في المنطقة إلى لبنان… ولكن اسمح لي بأن أقول لك ان الحوار الثنائي غير كافٍ وحده ، لأن المسيحيين متوجّسون من الحوارات الثنائية والتحالفات الرباعية، وهم على حق في ما يشعرون ويهجسون به استناداً إلى تجارب مريرة لم يمر عليها الزمن بعد … وهنا واذا كان الشيء بالشيء يذكر يا دولة الرئيس فانني لا اعفي السياسيين المسيحيين ايضاً من المسؤولية لما وصلنا اليه من وضع بائس ومزر نتيجة لانقساماتهم الدائمة واحقادهم المزمنة وصراعاتهم على السلطة.
في الختام اقول لك يا دولة الرئيس … نحن على ثقة بقدرتك على القيام بدور جامع بين اللبنانيين ونحن على يقين انك لن تتخلى عن مسؤولياتك الوطنية ، من هنا فنحن بانتظار دعوتك الى حوار صادق وهادف يضع مصلحة لبنان العليا فوق كل المصالح الشخصية والطائفية والمذهبية… وليكن حواراً وطنياً لا ثنائياً ولا رباعياً، حواراً لا يستثني احداً يضع الاصبع على مكامن الخلل الاساسية …
وليكن حواراً صريحاً وشاملاً لا يستثني ملفاً وقضية…
وليكن حواراً مكشوفاً وشفافاً لا في الكواليس ولا تحت الطاولة…
وليكن حواراً مُسنداً إلى دروس وعبر الماضي ومفتوحاً على افاق وتطلعات المستقبل…