IMLebanon

إلى كمال جنبلاط: اغتيالك.. يستمر

لم يكن إلهاً ولا ادَّعى النبوة. لم يدع العصمة برغم استحقاقه مساحتها الأكبر. كان كبيراً، لامس الشعر والفلسفة بواقعية السياسي، فجعل الناس العاديين يتوقون للتعرف الى فلسفة الهند وشعر الصوفيين الذين مارس طقوسهم من أعالي جبل الشوف، الى عرزاله في مواجهة البحر على تلة سبلين التي زرع في اجوائها روح محبة وتأمل وجمال… مارس السياسة، تصوروا السياسة في لبنان، بحكمة الفلاسفة وإحساس الشاعر وعمق العالِم. عرف كمال جنبلاط دائماً كيف يكون حليماً وحكيماً ومثل المهاتما غاندي، عندما يقتضي الأمر ذلك، ولم تعوزه جرأة الثائر في الملمات وعند أوانها..

من المفيد ان نذكّر شباب اليوم، بأن سياسياً لبنانياً مر على هذا البلد، وبرغم «زنقاته» المالية المتوالية، كان دائماً يرجع الى أرض ورثها لبيع قسم منها يغطي به «زنقته» وينفق منها على مصاريفه الحزبية والسياسية والحكومية. من المفيد ان نذكّرهم انه في عز الحرب الأهلية، امتنع حتى استشهاده، عن اكل الموز والليمون المحلي، مخافة أن يكون مصادراً من الدامور.

انه وهو سليل البيت الاقطاعي، وزع قسماً من أرضه على الفلاحين، وفوق ذلك كان رائداً في تطوير التعليم الرسمي ودعم الجامعة الوطنية..

هو وزير الداخلية، الذي وبحسه الديموقراطي التقدمي، دافع عن حرية العمل الحزبي لخصومه قبل حلفائه. هو رئيس الجبهة العربية المشاركة لتحرير فلسطين. فهم العروبة من مصدرها، حدد العدو والقضية وهي فلسطين. ولأنه عرف العدو ساهم في الدعوة لمقاومته من خلال الدعوة لتطوير الصمود الشعبي في «القرى الحدودية».

في ابهى مراحل «الحركة الوطنية اللبنانية»، كان رئيسها والشريك المساهم في صياغة برنامجها للاصلاح السياسي والاقتصادي. البرنامج الذي كان وما زال بآفاقه وجوهره، الحل لأزمة الوطن، دولة وكياناً واستقلالاً.

لقد كان مبرراً في السنوات الماضية، الإكتفاء بالقول اننا نحن إليك ونفتقدك. ولكن اليوم لم يعد كافياً الحنين والبكاء على الذكرى.

فالوطن ايها المعلم، امام خطر ارهابي كبير متقاطع في جنوبه كما في حدوده الشرقية. والأخطر ان السلطة اليوم في يد سياسيين اعتادوا الفساد واستسهلوا ممارساتهم. يسرقون المال العام باسم الطوائف والمذاهب. يجيرون المصلحة العامة لمصالحهم الذاتية. يخضعون بقراراتهم لسلطة المال ورجاله وشركاتهم العقارية. يسعون دائماً لتجاوز «زنقاتهم» من جيوب الفقراء. يحاصرون الجيش، لفرض تهاونه تجاه الارهاب. يحاصرون المقاومة، خدمة لعروبة الزمن الرديء… وتجاوباً مع مصلحة اميركا واسرائيل.

دمروا الدولة ومؤسساتها، واليوم يغامرون بمصير الوطن ووحدته، استكمالاً لمشاريع التفتيت في المنطقة. يتسابقون على التبعية للخارج ويتذابحون بالشعب من اجل مصالح الخارج.

&&&

لقد توجوا اغتيالك ومحاولة اغتيال مشروعك الوطني الديموقراطي، بتهيئة الأجواء السياسية «العربية» والدولية للاجتياح الاسرائيلي في العام 1982 وتركيب السلطة على قياس هذا الاجتياح.

بعد ذلك وبرغم المقاومة الوطنية حاولوا الالتفاف، بعد اطلاقها من قبل الوطنيين اللبنانيين وفي مقدمهم الشيوعيون وقادتهم من اصدقائك، جورج حاوي ومحسن ابراهيم والتفوا على نتاجها ونتاج انتفاضة شعبها في وجه اتفاق الذل الذي حضرته السلطة، والمسمى اتفاق 17 ايار وادخلوا البلد في حرب طغت عليها العبثية والمذهبية. في هذه الظروف، انتجوا لنا «اتفاق الطائف» الذي شكل المرحلة المتقدمة من تآمرهم على مشروعنا الوطني المشترك، وعلى احتمال التغيير الديموقراطي المرتكز على المقاومة في تحريرها للأرض.

لقد ارادوا من هذا الاتفاق، الذي مسخوه اكثر، ان يكون نهاية النضال الوطني الديموقراطي وحلمك بالتغيير.

أراد التحالف الحاكم، تحالف امراء الطوائف (المذاهب)، مع رأس المال بأبشع تمثيل له، رأس المال التابع، ان يقضي على اي امل في حركة شعبية تراكم من اجل التغيير وفي يدهم سلاح التعبئة المذهبية وحروبها المرتبطة بالخارج لمنع المواطنين من حمل قضاياهم وقضايا الوطن. وحتى من اعتبرته واعتبرناه عدونا الأول وعدو العرب الأول، اسرائيل، حولوه بالممارسة، وعلى انغام التحريض السعودي، الى صديق غير معلن لمشاريعهم.

وفي سبيل ذلك، مسخوا العملية الديموقراطية بقوانين انتخاب على قياسهم، وحاربوا بشراسة وما زالوا، قاعدة مشروعك للإصلاح، اي قانون الانتخاب على اساس النسبية والدائرة الواحدة وخارج القيد الطائفي وأعرف أني سأزعج راحتك الأبدية إذا قلت لك ان من ورثك، لم يرث هذا النهج، بل اصبح رأس حربة في نهجهم.

&&&

لكن الوضع ليس بهذا السواد، ايها الشهيد الكبير. فالشعوب العربية كسرت منذ سنوات حاجز الخوف والاستلاب وانتفضت. لم تستكمل انتفاضتها وانتكست بفعل تآمر النظام الرسمي العربي والتدخل الأميركي وبعده كل العالم، ولكن هذا اعطى الدليل على ان شعوبنا ليست ميتة كما توهّموا. وان «العقل العربي» ليس صنماً، بل هو عقل حاولوا تحنيطه، ولكنه ما زال قادراً على الابداع.

وآخر بوادر الأمل، هو انتفاضة شعب فلسطين المستمرة، والتي لم تستجد الدعم الخارجي لا من دول الخليج ولا من طهران ولا من أية دولة من العالم، متخطية سلطة رام الله وبلدية غزة متسلحة بالسكين والإرادة والحق الوطني.

هو نهج شعبك ايها الشهيد، هو نهج شباب المقاومة الوطنية، الذين احتفلوا بذكراك، بواحدة من اكبر عملياتهم وقريباً من مقرك المحبب، في وادي الزينة حيث سجلوا احدى روائع المقاومة التي اوجعت العدو والتي جددت مشروعك، بالتحرير والتغيير الديمقراطي. هؤلاء الشباب انفسهم والجيل الذي اتى بعدهم يقودون اليوم مقاومة من نوع آخر، ضد الفساد والتآمر على بيئتهم وصحتهم. فكانت انتفاضتهم في برجا والاقليم، بموازاة انتفاضة اهالي الناعمة والشحار والشويفات، نواة حراك شعبي ما زال، يؤرق مشروع «سوكلين» ومن يحكم لبنان باسمها.

لقد فشل مشروعهم، وانتهى الطائف الذي برغم تخلفه، لم يستطيعوا هم حمايته. وربما عجزهم هذا هو من مصلحة الشعب وقوى التغيير.

نحن أمام مرحلة جديدة، لا يمكن تجاوزها، إلاّ بمشروع تغييري، يشكل مشروع الحركة الوطنية اساسه ونواته مشروع الدولة العلمانية الديمقراطية، دولة الرعاية الاجتماعية. مشروع الدولة المقاومة، التي معها يصبح الجيش والشعب في إطار مقاوم موحد في وجه اسرائيل والإرهاب. دولة قادرة على الاستقلال من هذا الموقع المواجه للمشروع الأميركي الصهيوني وكذلك دولة تستنفر طاقات شعبها وثروات الوطن الضائعة، من اجل استقلال اقتصادي وعدالة اجتماعية، تحمي المعادلة الداخلية من الارتزاق الخارجي، بكل تلاوينه.

(&) الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني