قد يكون إسمه، أو أحد رفاقه، غادي أو إيهود، أو ربما مناحيم أو شاحر أو ألون. وقد يكون، أو أحد رفاقه، جندياً أو رتيباً أو ضابطاً رفيعاً> ولا يبعد أن يكون، أو أحد رفاقه، ضابط أمن في إحدى المستوطنات الحدودية أو غير الحدودية. قد يأتيه قدره، أو أحد رفاقه، في الجولان، أو مزارع شبعا أو على الحدود اللبنانية، ولا يبعد أن يكون الحدث في مكان آخر. القدر سيأتيه، أو أحد رفاقه، على شاكلة رصاصة أو صاروخ موجّه أو عبوة، أو غير ذلك. موعده، أو أحد رفاقه، مع هذا القدر قد يكون خلال الساعات أو الأيام أو الأسابيع المقبلة.
كل ما تقدّم بات تفصيلاً إجرائياً سيكشفه القادم من الأيام، وسيتحول آنذاك إلى «عناصر خبر» (من، كيف، أين، متى، ماذا، لماذا) تتداوله وسائل الإعلام على اختلافها. جوهر المسألة أن ثمة إسرائيليين، ليس معلوماً عددهم، تحوّلوا في اللحظة التي أصابت فيها صوارخ «سبايس» المبنى إياه في مدينة جرمانا السورية مساء السبت، 19 كانون الأول، وأدّت إلى استشهاد العضو في حزب الله (ما همّ كادراً كان أم لا) سمير القنطار ــــ هؤلاء الإسرائيليون تحولوا إلى «أبناء موت»، وفقاً للتعبير العبري المأخوذ من سفر صومئيل الأول في التناخ (الفصل 16، الآية 16)، أي إلى محكومين بالإعدام، إذا ما أردنا تعريب المصطلح.
«هامش الإنكار» هو العنوان الذي أطلقته إسرائيل على الإستراتيجية الإعلامية ـــــ السياسية التي تنتهجها حيال إعتداءاتها السورية. تقصد بذلك تعمّد عدم الإعلان عن هذه الإعتداءات، فضلا عن عدم تبني المسؤولية عنها، واعتماد سياسة تجاهل رسمي حيالها، حتى بعد انكشافها على الملأ. الغاية من ذلك إتاحة المجال أمام حزب الله لإنكار حدوث الإعتداء و/أو تحميل إسرائيل المسؤولية عنه، وتالياً إعفاؤه من الحرج العلني أمام جمهوره؛ حرجٌ من شأنه أن يوهّن صورته ويخدش كبرياءه ويستدعي تالياً الرد، ولو من موقع «مكرهٌ لا بطل».
الحزب، في المقابل، تعاطى مع الإعتداءات الإسرائيلية بما يشبه التفكيك: تلك التي طاولت ما قيل إنه أسلحة استراتيجية داخل سوريا كانت في طريقها إليه إعتبر نفسه غير معني بالتعليق عليها، وترك ذلك للدولة السورية. أما ما اقترب من الجغرافيا اللبنانية أو مسّ الكادر البشري للحزب أينما كان، فقد انبرى علناً ومن دون تأخير إلى الإعلان عن الإعتداء، توعد بالردّ وقَرَن وعدَه بالتنفيذ العاجل. غارة جنتا (24 شباط 2014) واستهداف شهداء القنيطرة الستة (18 كانون الثاني 2014) هما النموذجان القياسيان على ذلك.
«أياً تكن التبعات والتهديدات، نحن لا نستطيع ولا يمكن أن نتسامح مع سفك دماء مجاهدينا وإخواننا من قبل الصهاينة في أي مكان في هذا العالم». الكلام للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في ذكرى أسبوع الشهيد القنطار قبل أيام. «لا نستطيع ولا يمكن» تعني، كما يفهمها العاقل، أن ثمة مستويين من المسؤولية في عقيدة حزب الله تجاه الإعتداءات الإسرائيلية ضد كادره البشري:
الأول: المستوى المعنوي والأخلاقي والشرعي الذي يفرض، نظرياً، الإقتصاص لدماء الشهداء.
الثاني: المستوى الردعي المتعلق بمعادلات الصراع مع العدو الإسرائيلي، الذي يفرض، عملياً، وبمعزل عن أية حسابات أخرى، تدفيع تل أبيب ثمن ارتكاباتها، وتكريس حتمية جباية هذا الثمن في وعيها. وإلا، إن لم تنحفر هذه الحتمية في الوعي الإسرائيلي، عَنَى ذلك استدعاء المزيد من الإرتكابات، بل وارتقاءً في وتيرتها وحجمها ونطاقها الجغرافي.
لا بأس باستحضار نموذج من الماضي القريب لتوضيح المسألة. «نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون» قال السيد نصر الله ذات خطاب. في سياق هذا الموقف ــــ قبله ومعه وبعده ــــ عمل «المؤتمنون» على توفير الآليات الإجرائية الضامنة لترجمته: أسر جنود إسرائيليين لمبادلتهم. عمليات الأسر التي تكلّلت بالنجاح لم تَعْدُ الأربع: أنصارية (1998)، شبعا (2000)، العقيد تننباوم (2000) وعيتا الشعب (2006). لكن العارفين (إسرائيل في مقدمهم) يعلمون أن عدد المحاولات التي جرت خلال تلك السنوات، ولم يُعلن عنها، كانت من الإصرار والمثابرة بحيث جعلت الجيش الإسرائيلي يعيش فوبيا مستديمة من الأسر على الحدود. في النهاية حصلت عمليات تبادل، وفي كل مرة كانت إسرائيل تكابر وتتحفظ على أسرى لبنانيين، إلى أن استوعبت أخيرا الدرس، وأدركت أنها جنودها سيكونون عرضة لتهديدٍ دائمٍ، جديٍ، وغير قابلٍ للردع بالأسر. أي أنها أدركت أن عدم انصياعها لمعادلة «لا نترك أسرانا في السجون» سيعني استدعاء عملية الأسر المقبلة التي ليس في مقدورها منعها. بيد أن الأهم من التسليم بضرورة الإفراج عن كافة الأسرى اللبنانيين حتى ترفع تهديد الأسر المصلت عليها، هو الأثر الردعي الذي حفرته المعادلة في الوعي الإسرائيلي. وهو أثر تبدّى في ما يشبه القرار غير المعلن بالحرص قدر الإمكان على عدم الإحتفاظ بأسرى لبنانيين، حتى بات هناك من يتندر بأن الجنسية العربية الوحيدة، التي لو اعترضت قوات الإحتلال الإسرائيلي حاملها بما يستدعي اعتقاله لأحجمت عن ذلك، هي الجنسية اللبنانية. لا لشيء، سوى لأن ثمة خلايا في وعيها السياسي ــــ العسكري قد اكتوت بحقيقة يقينية عنوانها «نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون»؛ أي أن أسر أي لبناني سيؤدي إلى حالة ربط نزاع مع حزب الله ستنتهي «حكما» بعملية أسر تفضي إلى إطلاقه.
بالعودة إلى السياق الراهن، «لا نستطيع ولا يمكن» تعني أن ثمة خطاً أحمر عريضاً عنوانه حماية كوادر حزب الله، وهو خط لا يمكن التراجع عنه، وينبغي لإسرائيل أن تستوعب موجباته «أياً تكن التبعات والتهديدات». وإذا كانت ثمة إشارات إسرائيلية تفيد بأن تل أبيب أخطأت في تقدير موقعية الشهيد القنطار عند حزب الله، الأمر الذي جرأها، ربما، على إغتياله، فإن المستلزمات الردعية لكي الوعي الإسرائيلي تستدعي تدفيع تل أبيب ثمن هذا الخطأ أيضاً.
بناء على ما تقدم، يمكن المرء إعادة تركيب مسار إغتيال القنطار مسلطاً الضوء على جانب لم يبدُ ملحوظا فيه: اللحظة التي اجتمعت فيها القيادة السياسية والإستخبارية والتنفيذية في إسرائيل لاتخاذ قرار الاغتيال، هي ذاتها اللحظة التي قررت فيها القيادة نفسها تفويضَ حزب الله بتحويل إسرائيليين إلى «أبناء موت»، من خلال ممارسته «واجب» الرد الحتمي.
«لتعلم كل أم عبرية» عبارة مأخوذة من خطاب لدافيد بن غوريون أمام قادة الجيش عام 1963. الجزء الذي ترِدُ فيه العبارة مكرّسٌ للتشديد على ضرورة أن يستشعر هؤلاء القادة أن حياة جنودهم «غالية» عليهم، وأن يستقطبوا على أساس ذلك ثقة هؤلاء الجنود بهم «لتعلم كل أم عبرية أنها سلّمت مصير أبنائها إلى قادة جديرين بذلك». العبارة تحولت إلى شعارٍ عسكري يرفعه الجيش الإسرائيلي في ثكناته ليحفز الضباط على الإلتزام بمعانيها، والأهم أنها تحولت إلى ما يشبه القيمة الوجدانية في المجتمع الإسرائيلي، لجهة أنها تمثل ما يتوقعه هذا المجتمع من قيادته، خصوصاً على الصعيد الأمني.
التأمل في معادلات الصراع بين حزب الله وإسرائيل يفضي، دون بذل الكثير من الجهد الذهني، إلى استنتاجات عدة. من بينها أن «على كل أم عبرية» أن تعلم أن حياة أبنائها قد تكون ثمناً لقرارات قيادتها عندما تتعلق هذه القرارات بحزب الله.