يدخل الشغور الرئاسي عاماً ثالثاً، بالتزامن مع الانتخابات البلدية، وقبل عام من انتهاء مدة التمديد الذاتي الثاني للمجلس النيابي، وفي ظل عودة النقاش حول قانون الانتخاب الى نقطة الصفر، وهو معضلة المعضلات في ربع قرن من الجمهورية الثانية، في ظل الوصاية وبعدها لا فرق.
وطبعاً، يترافق الوصف المجوّف للاستحقاق البلدي على أنه «ديموقراطية محلية» مع بقاء «اللامركزية» مجرّد تعويذة غامضة، رغم مضي ربع قرن على اعتماد اتفاق الطائف لصيغة ملتبسة أطلق عليها اسم «اللامركزية الإدارية الموسعة».
الإيحاء بأنّ الانتخابات البلدية هي «البديل الممكن» عن الاحتكام لصناديق الاقتراع لانتخاب مجلس نيابي أو لانتخاب رئيس للدولة من لدن المجلس النيابي هو إيحاء سقيم الى حد كبير. كذلك غلو بعض الجمعيات المدنية في أمر الانتخابات البلدية، واعتبار التغيير يبدأ منها، لأنه يبدأ من تحت ومن الناس … الى آخر المعزوفة، يبدو في غير محله. كما كانت المبالغة في الدور الذي يمكن ان تلعبه البلديات في وضعها الحالي في معالجة النفايات أحد عناصر الخروج عن الواقعية والملموسية في أيام الحراك الاحتجاجي الصيف الماضي.
السلطة التنفيذية لا تزال تصرّ بأن الانتخابات ستُجرى في موعدها، وتتعجب من التشكيك في ذلك. كما لو كان يمكن لتشكيك كهذا أن يكون عجيباً في بلد مرت عليه سبع سنوات قبل آخر استحقاق تشريعي، ويدخل عامه الثالث بلا رئيس دولة، في نادرة عالمية مضحكة مبكية.
من الصعب تقدير طريقة تفاعل الشارع، أو مجموع الشوارع اللبنانية، مع الاستحقاق البلدي العتيد. لكن ثمة بالتأكيد تشكيكاً له قدرٌ من الحيثية الشعبية بإمكان حصول الاستحقاق في موعده لدى الناس، بالتوازي مع تفاوت في الاهتمام بالحسابات الانتخابية، وانتعاشة «سياسات القرى» والاعتبارات «الأعيانية»، وهو ليس بحد ذاته أمراً سلبياً، أبداً، سوى أنّ سلبيته يحصلها، من الاختلاف الواسع بين جغرافيا المحليات منظورٌ لها في سجلات القيد، وجغرافيا المحليات في أماكن السكن.
الى حد كبير، الانتخابات البلدية هي انتخابات «في لا مكان» (وهو المعنى الاشتقاقي لكلمة «يوتوبيا»، وعليه هي انتخابات يوتوبية)، ما دامت تُجرى بحسب أماكن سكن، أو هي «انتخابات نوستالجية» كونها تحدّد بأماكن تحدّر الأجداد، في وقت يتكثف فيه أغلب السكان في بيروت وضواحيها وشريط المدن الساحلية، من دون أن تكون لهم كلمة في حال البلديات التي سيؤدون لها الرسوم، والتي ينتظر منها، من بين أشياء أخرى، السهر على «الفرز من المصدر» في ملف النفايات على ما كانت تطالب الحركة البيئية الاحتجاجية للشباب اللبناني.
استحقاق لا مكاني من حيث طلاقه مع الجغرافيا الواقعية للانتشار السكاني، لكنه استحقاق متخبط زمنياً (أناكروني)، لأنه يفرض على الناخب أن يعيش في زمان انتخابي غير زمانه، سواء على مستوى احياء هوية اكثر محلية بكثير من الطائفة، كالعائلة الكبيرة، ولا يكون قد احتاج لتذكرها بحق منذ سنوات عديدة. فالعائلية السياسية أو التحت سياسية، تستيقظ عشية الاستحقاق البلدي، وتعود للسبات بعدها. ليس صحيحاً التوهم بأنها يقظة على الدوام، وعلى نحو ثابت.
في ظل انعدام الديموقراطية الشامل، برلمانياً وفي الرئاسيات، تبدو مقولة «التغيير يبدأ من البلديات» غير مقنعة. مع ذلك، فان كل يوم نقترب فيه من الموعد المضروب للاستحقاق، نكتشف فيه توترات سياسية ترجمتها في نهاية المطاف انها غير سعيدة بحصول الاستحقاق، وطبعاً ليس للنقد الموجه له أعلاه، بل لأنها تحسب نفسها في غنى عن المتاعب حالياً، في غنى عن «وزن نفسها»، واعادة تنظيم علاقتها مع مجتمع الأعيان المنتمي لمجالها الطائفي أو المناطقي. الذين يتمنون تأجيل الانتخابات في سرّهم، أو في نصف علنهم، ليسوا قلة. لكن تأجيل الانتخابات البلدية سيفتح مشكلة، وربما الباب لحراك احتجاجي واسع، وهذا ما يتفاوت الوعي به، والتحسب له، بحسب القوى السياسية ومواقعها.
الانتظارات التي شهدناها قبل أسابيع قليلة، بأن يكون الاستحقاق مناسبة لاحيائية مدنية، أو لاحيائية مسيحية، أو لاحيائية المجتمع المقاوم، أو لاحيائية «احيائية» دينياً، كلها تراجعت، عند اقتراب الموعد. كذلك التفاؤل، الذي لا يدعو الا الى التشاؤم، بأنّ التوافق والتزكية سيقللان المواجهات الانتخابية الى أقصى حد، قد لا يكون في محله.
أياً يكن من شيء في أمر الاستحقاق، فانه في اللحظة التي ننسى فيها مفارقة انه يجرى الاستعداد له، في بلد بلا رئيس، وبلا سلطة تشريعية (كون البرلمان ينتخب رئيساً أولاً أو لا يشرّع وفقاً للدستور)، ولإحياء شكل من العمل السياسي، العائلي المحلاوي، يبعث قبل العيد، أي الانتخابات، ويتناثر زبداً بعدها، الى حد كبير، وفي بلد تقوم فيه بلديات عديدة بإجراءات عنصرية ضد اللاجئين السوريين، دون ان يردعها رادع، ويصادر فيه مسبقاً حق أكثرية السكان في قول كلمة بلدية حيث يعيشون، وحيث هم مكلفون ضريبيون، كل هذا يفترض به اعادة الاستحقاق الى حجمه «التقليدي» والى عوائقه الحالية غير التقليدية في بلد بلا رئيس وبلا تشريع «طبيعي»، سواء حصل في وقته، او حصل في وقته شيء آخر، ذلك أن التأجيل له ثمنه، واحترام المواقيت له ثمنه أيضاً، والكلفة حاضرة كسؤال مفتوح في الاتجاهين.