بعد السلام والتحيّة،
إن المغزى من هذه الرسالة ليس للتجريح والانتقاد أو المزايدة عليكم، إنّما الهدف منها إجراء مراجعة ذاتية هادئة لتصويب المسار بما أنّ الفرصة سانحة ومواتية بعد أن فضح اعتكافكم زور البعض وخيانة البعض الآخر، وبعد أن كشفت الانتخابات الأخيرة حقيقة الأمور وحجم تمثيل اللاهثين وراء زعامة الطائفة السنّية، التي وصّفها الرئيس نبيه بري صراحةً عندما قال إن «الانتخابات الأخيرة أثبتت أن سعد الحريري هو الناجح الأكبر على الرغم من اعتكافه».
يُجمع ويشهد اللبنانيّون على حبكم للبنان وتعلقكم بهذا البلد النازف والمهدّد على عدّة مستويات، إن كان على المستوى الشخصي أو على مستوى عائلة رفيق الحريري رحمه الله، وهو الذي دفع حياته ثمناً للدفاع والحفاظ على لبنان الحر المستقل العربي، والمُتنوع بجناحيه المسيحي والمسلم وطوائفه المختلفة، ولا ننسى مقولته المأثورة «ما حدا أكبر من بلده» على الرغم من أنّه كان عملاق السياسة اللبنانية وشخصية وازنة إقليمياً ودولياً.
واقع الأمر أنّه عندما استشهد والدكم، رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنّاته، جيء بكم على غفلة في ريعان شبابكم المليء بالحيوية وصفاء القلب والنيّة الطيّبة، لكن دون أي خبرة أو حنكة سياسيّة تُجاري دهاليز السياسة المحليّة القذرة ومن يعمل فيها ومن يقف في ظلالها. هكذا ودون أي إعداد مُسبق، ودون سعي أو رغبة شخصيّة منكم، زُجّ بكم في أتون وضع معقّد وخطير، وورثتم حملاً شعبيّاّ ومذهبياً ومالياً ثقيلاً، وإرثٌاً سياسيّاً محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً ضخماً له تبعاته ومخاطره.
مع الأسف، تخلّيتم باكراً عن مستشاري والدكم العقلاء المُجرّبين وخبراتهم، وصقور «تيار المستقبل» المُحنّكين، وتواكب هذا مع اغتيال كوكبة من الشخصيات الوازنة التي كانت داعمة للتيار وكانت صادقة وصدوقة في تقديم النصائح والمشورة. بالمقابل، استمعتم إلى ابنيّ عمّتكم ومجموعة ممن لا يُحسنون الاستقراء والتحليل والتخطيط ووضع الاستراتيجيات، والطفيليين المُستترين. وقدّمتم بناءً على نصائح هؤلاء الفاشلين والمنتفعين الكثير من التنازلات التي أثبتت الأيام أنّها أضرّت بكم وبالطائفة السنيّة كلّها بينما استفاد منها الآخرون، فزاد الشرخ بينكم وبين قاعدتكم السُنّية، وفي الوقت ذاته لم تكتسبوا أي قاعدة من المذاهب الأخرى، بل تباعدتم مع كثر بسبب تمسّككم بالعلاقة الوطيدة مع «التيار الباسيلي»، ودعمكم «لصديقكم جبران» ذاك الانتهازيّ المتطرّف والحاقد على السنّة.
وفي السنوات القريبة الماضية، توسّعت المواجهة الإقليمية بين المحاور السياسيّة وانسحبت على الداخل اللبناني تباعاً، فجعلتكم عالقين بين المطرقة والسندان، غير قادرين على إرضاء السعودية بالكامل أو عن مخاصمة الطرف الآخر بالكامل. ثم توالت الأخطاء والطعنات السياسيّة وفوقها الضربات الغادرة العائليّة والماليّة، التي هشّمت صورتكم أمام الناس وأثقلت ظهركم، إلى أن انهارت مؤسسات «تيار المستقبل» الإعلاميّة والتربويّة والخدماتيّة وتبعثر ما بناه والدكم المغفور له (بإذن الله). ثم وقعت القطيعة السعودية تجاهكم والتي أعلنتم من بعدها، وربّما بسببها، اعتكافكم الحياة السياسية ومغادرة لبنان، لتخلو الساحة السياسية من بعدكم لعلوج الطائفة اللاهثين وراء مقعد لا يليق بهم من هنا أو زعامة مُصطنعة من هناك.
في الخلاصة، وبغض النظر عن الهفوات السياسية، لقد قدّمتم مختلف أنواع التضحيات وبذلتم الكثير من الوقت والجهد والمال، ومع ذلك خانكم وتخلّى عنكم من كان يتوجب عليهم أن يكونوا بجانبكم، ممّا عرّضكم لأقسى المخاطر والضغوط الحياتية والسياسية. وإذا أردتم يوماً العودة إلى مزاولة نشاطكم السياسي، العبرة في التعلّم من الأخطاء التي ارتُكبت خلال مسيرتكم السياسيّة، وأن تكونوا جاهزين لتداركها وتصحيح المسار ابتداءً من أنفسكم، وأن تُعيدوا النظر بجديّة ودون أي محاباة، بجميع من يُحيط بكم، مستفيدين من كل التجارب التي مررتم بها. الآن وقد انكشفت النوايا وعرفتم الصديق من الخصم، وعادت المكونات السياسيّة إلى أحجامها الحقيقيّة، ربّما آن الأوان لكم لوضع صيغة جديدة ومستدامة لمستقبل التركة السياسيّة لوالدكم الشهيد، وأن تفتحوا صفحة جديدة مع جمهوركم الحالي والسابق.
لكن ضعوا نُصب أعينكم أن الكثير من الخبثاء والانتهازيين والمطبّلين والمنافقين والجاهلين بالسياسية ينتظرون زيارتكم إلى بيروت ليطالبوكم بمعاودة نشاطكم السياسي بذريعة مصلحة البلد وتوازناته، إضافةً إلى انتشال موقع الطائفة السنيّة في النظام اللبناني. ومع أن ذلك صحيحٌ إلاّ أن عودتكم الى الحياة السياسيّة تكون أجدى بعد قيامكم بسلسلة من التجهيزات والإصلاحات، تبدأ بالمصالحات وإنهاء القطيعة بين أفراد عائلة الشهيد، وتطهير الحلقة الداخلية المحيطة بكم، والارتكاز إلى مشورة من تبقّى من مستشاري والدكم الأوفياء أو من هم أصحاب علمٍ واختصاص، وإنشاء ديوان من الصقور القدامى والجدد الصادقين الصدوقين، وإسكات الأبواق الركيكة التي تتحدث بالنيابة عنكم، ولا تنتهي هذه الإصلاحات عند حدود تحديد موقف واضح ومعلن من الأطراف السياسية كافة دون أي محاباة أو مجاملات.
حينها فقط، ربّما، يُمكن لسعد الحريري أن يعود إلى لبنان وهو محصنٌ من الطعنات، ومُحاطٌ باللبنانيّين والأشقاء العرب والمجتمع الدولي، على أن لا يساوم ولا يتنازل ولا يُضحّي الّا بالقدر المطلوب المدروس والموزون بميزان الذهب.
مع التقدير والمودّة.