IMLebanon

أن تعترف بأنّك لا تعرف

 

لم تقل العشرات من الطواويس والديوك التلفزيونية والصحافية اللبنانية كلمة واحدة ذات معنى منذ إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته من منصبه ظهر السبت الماضي. مئات ساعات البث المباشر والمقالات ذهبت كما تذهب الأكثرية العظمى مما يسمى «العمل الإعلامي» في لبنان، نحو مزيد من التعبئة وشدّ العصب الطائفي– المذهبي من دون أي عناية بالمهمة الأولى المفترضة للصحافيين والمحللين: نشر المعرفة المستندة إلى الوقائع.

قلة المعلومات المتوافرة عن الاستقالة وامتناع الأوساط المحيطة بالحريري عن الإفصاح عن خلفيات الخطوة ومعناها وما يمكن أن تسفر عنه على المستويين اللبناني الداخلي والإقليمي، لم تفرض التزام طواويس التلفزيونات وديوكها بالهدوء المفترض وانتظار المزيد من الوضوح. بل عمّ الهياج، وارتفعت الأصوات، وراح كلّ ينادي «أنا طلّاع الثنايا».

ومَن خذلته المعلومات، أسعفه الخيال. فظهرت سيناريوات متكاملة عن اعتقال الحريري ووضعه في الإقامة الجبرية والتحقيق معه في ملفات فساد تتعلق بأعماله في الرياض. وتبنّى هذه الأقاويل سياسيون وصحافيون ووسائل إعلام ومواقع إنترنت، لم يكلف أي منهم نفسه عناء تقديم دليل واحد ملموس على ما جزم به وأكد عليه، في حين كان احترام الذات والمشاهد والقارئ يستدعي إبداء قدر من الحذر والتحفظ في تناول حدث كبير أحيط عمداً بالتكتم لأسباب ما زالت غير مفهومة، بغض النظر عن حقيقة ما يجري وراء الكواليس.

بين غزارة المقابلات والإطلالات والتصريحات وبين الشحّ الفظيع في المعطيات، تكمن مأساة الإعلام اللبناني بأصنافه، المرئي والمطبوع والإلكتروني. واستقالة الحريري لم تكن غير مناسبة لتكرار مظاهر البؤس المتفشي في وسائل الإعلام اللبنانية التي مات أكثرها عيادياً ولا يُبقي الصامد منها على قيد الحياة غير تمويل الجهات السياسية التي تستخدمها ناطقة باسمها وحارسة لجمهورها. العقد الفاوستي الذي وقّعه الإعلام اللبناني مع رعاته السياسيين- الماليين، أطاح الحد الأدنى من المهنية والالتزام بالموضوعية.

الجانب الثاني الذي لا يقل ظلاماً من هذا العقد بين وسائل الإعلام ومموليها، على ما ظهر في قضية استقالة الحريري، هو الهزال الشديد في الإمكانات الصحافية الاستقصائية والفشل في العثور على خلفيات أي خبر وأبعاده، ما أن يطفئ السياسي جهازه الخليوي ويخرج عن السمع.

استقالة الحريري، بهذا المعنى، فاجأت أدعياء المعرفة الشاملة الذين يظهرون على الشاشات وعيونهم نصف مغمضة من فرط الثقة بالنفس، ليتحدثوا في أمور تمتد من توسع المجرات والانفجار الكبير إلى تحركات زعيم ميليشيا الحي الذي يقيمون فيه. فاجأت الاستقالة من اعتبر أنه غير قابل للمفاجأة، هو المحصّن من مرض الدهشة والذهول بفضل القوة الخارقة التي تتمتع بها المرجعية السياسية التي يواليها، ولا يحتمل أقل كلام يضعها ضمن البشر العاديين الذين يتصرفون وفق ما يعلمون وفي حدوده. هذا وإلا سيغادر المفكر والمحلل الإستراتيجي الاستديو غاضباً متى انكشفت لعبته المملة.

ليست الضحالة صفة جديدة على وسائل إعلام بلدنا. بل هي تتشاركها مع وجوه كثيرة من السياسة إلى الاقتصاد إلى التعليم والثقافة. وهذه من إنجازات عهود عدة مرت على لبنان وأعملت فيه تخريباً وتدميراً. لكن هذا لا يحمل أياً كان على الاعتراف بأنه لا يعرف. والاعتراف هذا بداية المعرفة، على ما يقال.