Site icon IMLebanon

لإنقاذ الجامعة الجريح..

على امتداد نصف قرن أو يزيد كانت الجامعة اللبنانية تحتل مكانة مميزة جعلتها الند المنافس، بل والمتقدم أحياناً، على جامعات عريقة، كالأميركية واليسوعية.

صمدت هذه الجامعة لأجيال، برئاسة مستنيرة ومجتهدة وبنخبة من الأساتذة المميزين الذين كانوا يقدرون خطورة المهمة، ويسهرون للحفاظ على المستوى الرفيع لهذه الجامعة الفقيرة بإمكاناتها المادية والذي يحمي دورها الوطني ويدفعها إلى الأمام مدركة حجم التحديات التي تواجهها مع جامعات أعرق وجوداً وأغنى بما لا يقاس من إمكاناتها المحدودة.

ولقد أمكن تحييدها، لحقبة معينة، عن الصراعات السياسية التي كثيراً ما تستند إلى خلفيات طائفية، وإلى عقدة نقص تجاه «الأجنبي» سرعان ما تتحول إلى انحياز مفضوح للآخر ضد الذات.

ومؤكد أن الجسم الطلابي قد لعب دوراً تاريخياً في النهوض بالجامعة الوطنية، وهو ـ مع الأسف ـ غائب تماماً الآن ومعطل. وكان المجلس الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية له تمثيله في مجلس الجامعة، بواقع ممثل أساسي لكل كلية. أما الآن فالطلاب غائبون ومغيبون ولأسباب تتصل بسيادة المناخ الطوائفي الذي التهم مساهمتهم حيث يجب أن يساهموا…

وبرغم المناورات السياسية والضغوط التي كثيراً ما ارتدت لبوسا طائفيا، ظلت «جامعة الفقراء» الباحثين عن فرصة لاكتساب المعرفة، متميزة بحشد من الكفاءات العلمية ممن اعتبروا أنهم إنما يؤدون فيها «خدمة العلم»، وقد قبلوا التحدي المفروض عليها، وعليهم وهم فيها، وسهروا كمن يؤدي واجبه الوطني، وأعطوا بلا منة وبلا حدود… وإن كانت الجامعة قد تعرضت، في السنوات الأخيرة، إلى «غزو» من الطبقة السياسية، أدخل بالشفاعة عدداً من الأساتذة، أو سعى لتفريغ بعض مَن لا يستحقون… لكن الجسم التعليمي ما زال يتمتع بكفاءة عالية نسبياً.

بل إن هذه الجامعة الوطنية قد صمدت طوال دهر الحرب الأهلية/ العربية/ الدولية، برغم تعرض إدارتها وأساتذتها وطلابها بطبيعة الحال، للمخاطر اليومية وهم يقصدون إليها بعناد المؤمن.

وكلنا نعرف أن الجامعات الأجنبية قد حاولت إغراء العديد من الأساتذة المميزين، لخطفهم، أو «لشراء» مشاركتهم ولو جزئيا فيها… ولعلها نجحت في حالات محددة ومحدودة، لكن الهيئة التعليمية أو الأكاديمية في الجامعة ظلت قادرة، في الغالب الأعم من الحالات، على حفظ المكانة المتقدمة للجامعة الوطنية بين الجامعات الأخرى.

ثم همى المطر… وشُرِّعت أبواب الترخيص لمزيد من الجامعات الأجنبية، وللعديد من الدكاكين المحلية التي اقتحمت هذا المجال الحيوي وبغير سند من الجامعات الأم التي استُخدِمت أسماؤها للترخيص، بينما هي دون المستوى.

كان فتح الباب أمام هذه الجامعات من ورق فضيحة الفضائح… فهي قد باعت الشهادات من دون تعليم حقيقي، بالاستناد إلى جامعات مجهولة في بلاد لم تعرف برفعة مستواها العلمي، وعبر محاولات متكررة لإغراء بعض أساتذة اللبنانية بالتعليم والتدريس فيها «في أوقات الفراغ…».

لقد استنبت أكثر من أربعين جامعة، دفعة واحدة، في هذا الوطن الصغير… وليست هذه شهادة تؤكد ما يطلق على لبنان من أنه وطن النور والتنوير، بل هي إدانة لمن رخص لها إما لأسباب سياسية مضمرة وإما لأسباب مادية معلومة. وليست مفخرة أن نقول إن في لبنان خمسين جامعة، بينما يعاني متخرجو أكثر من نصفها، وربما معظمها من البطالة، أو إنهم قبلوا بأي عمل يعرض عليهم بغض النظر عن الشهادات.

برغم ذلك فقد صمدت الجامعة الوطنية وظلت مقصداً لأكثر من 70 ألف طالب، أي ما يعادل 35 إلى 40 في المئة من مجموع أعداد الطلبة الجامعيين في لبنان، كما أن متخرجيها يشكلون أكثر من ثلاثين في المئة من مجمل المتخرجين (كحد أدنى).

وربما كان بين ما يؤذي الجامعة ويتسبب في إنقاص عدد طلابها أنها مقسمة إلى كليات، وبعضها ينقسم إلى أربعة أو خمسة فروع تتبع للكلية الأم… وهذا متعب للجامعة والطلاب.

بالمقابل، مثلاً، فإن سوريا قد أقامت جامعة مستقلة باختصاصات مختلفة في كل محافظة.

ومن اللافت أن تكون هذه الجامعة التي صمدت بهيكليتها العامة خلال الحرب الأهلية قد بدأت تخسر من رصيدها، مع قيام «العهد الجديد»، بعد اتفاق الطائف، وعودة الحياة السياسية بأقطابها الذين توزعوا المواقع الحاكمة في المجالس والإدارات العامة كمغانم حرب… وكانت الجامعة اللبنانية بين تلك المغانم، برئاستها ومديري الفروع وحشد الأساتذة الذين أدخلَت بعضَهم الشفاعاتُ قبل الشهادات.

ومن نعم الله أن بعض أركان الجامعة من الأساتذة الذين جعلوا من الكليات العلمية، وبالذات الطب والهندسة والصيدلة والعلوم، منارات، قد حفظوا هذه الحصون، وهي ما زالت باقية بتميز مستواها حتى بين الجامعات العريقة.

وفي حين أن مجلس الجامعة يتكون أصلاً من العمداء وممثلي الأساتذة في الوحدات، على أن يكونوا بالأصالة لا بالوكالة، فإن عدداً كبيراً من العمداء هم بالوكالة.

أما الرئاسة فقد تحكمت فيها السياسة وأهلها وبدعة التوازنات الطائفية وبمن حضر، في المواقع الأكاديمية.

وها أن معركة رئاسة الجامعة تخاض اليوم عبر مساومات بين مراكز القرار السياسي، مما يهدد بتجاوز القواعد المعتمدة وأولاها الكفاءة العلمية والخبرة وحسن السيرة، واللجوء إلى قاعدة «خذ وأعطِ» و «هذا من حصتنا، وذلك من حصتكم».

الطريف أن مجلس الجامعة يرفع، عادة خمسة أسماء لاختيار واحد منهم رئيساً… وهو قد رفع بالفعل خمسة، لكن وزير التربية سيرفع ثلاثة أسماء فقط إلى مجلس الوزراء، من أصل الخمسة، لأسباب غير مفهومة.

وفي خضم المعركة جرى «حرق» أسماء مؤهلة، وتقديم أسماء لمرشحين تتناول الشبهات مستواهم الأكاديمي الذي لا ينفع في تحسينه أن يكونوا من أصحاب الحظوة لدى هذا القطب السياسي أو ذاك.

إنها الجامعة الوطنية وحمايتها واجب وطني مقدس.