كتبت هذا المقال منذ سنوات عدة، لكنه لا يزال في سياقه العريض (والرفيع!) صالحاً لهذه الأيام الكالحة. والسبب لا يعود إلى خاصية استشرافية مدّعاة، بقدر ما يدلّ على دوام الحال الممانع في نواحينا على ما هو عليه، بل ازدياد معدلات البؤس والعبث والعتم فيه.
«اعتدنا الضخّ التوتيري والتهديدي الفالت على غاربه وشارقه في هذه الأيام.. سبق الفضل في هذا السياق أكثر من مرة في السنوات المريرات اللئيمات التي عشناها منذ ثلاثة عقود وأكثر بالتمام والكمال والإكرام والاحترام.
اعتدنا ذلك المناخ وأمطاره الميدانية فوق رؤوسنا، وما عاد ممكناً لمن استعار (مثلنا) جلد التمساح أن يتأثر أكثر بنتشة من هنا أو بعضّة من هناك، أو بأي هبّة إضافية تلقى على وجهه وعلى جلده، ولا تفعل سوى ما فعلته النصال المتكسّرة على النصال عند أخينا الشاعر المكسور الخاطر من غدرات زمانه.
غير أن ذلك كله يجب أن لا يدفع بنا إلى الاختيال بالتمسحة، واعتبارها ركناً أصيلاً من أركان الفضائل الحميدة، أو مكرمة جليلة الشأن يمكن الاعتداد بها والتشاوف والتفاخر! فهذه في أول المطاف وآخره ووسطه وجنباته الأربع، تعني في ما تعنيه! انعدام ملكة إحساس أساسية وحاسمة. كما اعتياداً غير مأنوس على جنزرة المشاعر ورهافتها. وخفّة الروح وشفافيتها، ثم الاعتياد كذلك على حالة غير طبيعية وبعيدة عن الأنسنة ولا تليق بالساكنين والسائرين والقاطنين في مجتمعات مدنية حديثة فيها قوانين ونظم ودساتير وأعراف وتقاليد جلّ مرماها ومبتغاها ونجواها جعل العيش بسيطاً وتلقائياً. وجعل العلاقات بين العائشين معاكسة لتلك التي حكى الكتاب المسمى «كليلة ودمنة».
ثم إن تلك التمسحة لا يفترض بها، أيها الأحبة القلقون في سرهم وجهرهم، المنشّفون وجوههم، المهمومون بحالهم، المكشّرون بحواجبهم، المتنّكة أوضاعهم، الجافّة أساريرهم، الراجفة ركابهم، الواجفة قلوبهم، الناعسة عيونهم، والمشتتة أفكارهم والشاردة نظراتهم.. لا يفترض بتلك التمسحة أن تكون بديلاً من الردّ والصدّ، والمحاججة والمجادلة، والجهر والنطق، والإعلان باللسان والبيان والإيمان (وزهرة الإحسان!) عن التمسك بالحق ومعانقة العدل والعربشة على قطاره السائر بإذن الله إلى مراميه وأهدافه.
كما لا يفترض أن تعني التخلي عن نقاوة السر والسريرة ورسوخ اليقين ودقّة الشعار الآيل والباحث عن كيفية تلزيم لبنان لأهله وحفظ سلامه وأمنه وإنزاله عن الشجرة اليابسة وانتشاله من تلك الهوة المنحوسة التي هوى إليها، وما عاد مسموحاً له معرفة السبل للصعود منها إلى الهضبات الرحبات المفتوحات على النسائم الطريات وأنوار الشمس المشعات والباعثات الدفء في مكامن البرد والأنس في مكامن الوحشة والانتعاش في مكامن الخمول والتسطيل.
.. وتذكرت مرة أخرى كم أن إسرائيل محظوظة ببعض أعدائها».