IMLebanon

ليتوقف هذا النواح

تقول أزمة الصحافة اللبنانية اليوم، بين أشياء ثانية، إن عودة لبنان الى الوراء باتت مستحيلة وإن مأزقه السياسي الخانق بات أعمق من أن يجد حلولاً موقتة في ظل الواقع العربي القائم والصراعات والجبهات المفتوحة على مصاريعها.

صحافة بيروت ليست جزيرة معزولة عن محيطها وليست، بالقدر ذاته، ضحية بريئة من ضحايا اخفاقات وحروب خارجية. لقد انغمست الصحافة اللبنانية بكل أشكالها في الاقتتال الأهلي وفي النزاعات الإقليمية الى العنق. ووصلت بها الرعونة في الأعوام القليلة الماضية حد التحريض المذهبي والطائفي والدعوة الصريحة لحرب أهلية جديدة وسلسلة طويلة من الآثام الملازمة لكل من ينخرط في سياسة هذه البلاد وفسادها وحقول القتل المترامية فيها وحولها.

وإذا كانت الصحافة لا تهتم إلا بالتعرض لخصوم مموليها ولا هدف لها غير تملّق هؤلاء الممولين والتذلل لهم وتغيير سياستها يومياً لتتلاءم مع ضرورات المموّل حتى لو كان مجرم حرب وسارقاً للمال العام وتفوح رائحة فساده في البلاد بأسرها، فللقارئ الحق في التساؤل عن معنى وجود هذه الصحيفة او تلك، باستثناء تأمينها الجرعة الصباحية من الكراهية والانغلاق والحقد، فيما تتولى توفير الجزء المسائي محطات تلفزيونية يديرها من لا يقل تذللاً وكراهية عن «زملائه» في الصحافة المطبوعة.

أي خدمة عامة تؤمنها الصحافة؟ أي قيم تروج لها؟ أهي المقاومة والممانعة ورؤية سطحية للقضية الفلسطينية جرى استهلاكها وغسلها وكيّها ثم بيعها وشراؤها وعرضها في اسواق المزايدة والمناقصة على مدى عقود؟ أي مستقبل تدعو اليه؟ مستقبل الحروب الأهلية والمذبحة الطائفية التي لا نهاية لها؟ أي حقائق تنقل الى جمهورها فيما لا يسع كتابها وصحافييها مجرد الاستفهام عن مدى صواب اختيار الخندق السياسي الذي ارتمت صحيفتهم عميقاً فيه؟ ما هي البدائل التي اقترحتها هذه الصحف على نفسها، في ظل ازمة الاعلام على مستوى الكوكب بأسره، غير الانقلاب الى مواقع شبه إباحية تتخصص في نشر الإشاعات والترهات؟

لا مفر من القول إن رؤية «مطابخ» الصحف العربية واللبنانية الى العالم، رؤية قديمة ومفوتة ولم تعد تصلح لفهم وتفسير ما يجري حتى حول مباني الجرائد وفي الشوارع التي تطل عليها. وإن الصحافة التي تأسست كخدمة عامة في المقام الأول ثم تطورت الى صناعة الرأي العام، لا تساهم في البلاد العربية وفي لبنان في هذه المهمة وأن دمارها وانحطاطها ليس إلا انعكاس للدمار والانحطاط المنتشرين في طول المجتمعات والدول العربية وعرضها.

لا أسف ولا حزن ولا حنين الى رائحة الورق الحامضة وملمسه مع قهوة الصباح. فهذه ليست أكثر من نوستالجيا يروج لها من فقد صلته بالواقع، بعدما أسرف في استغلاله والاستفادة من تناقضاته. الحزن محصور بمصائر عائلات وموظفين وعمال سيذوقون شظف العيش بعدما تخلى عنهم أرباب المؤسسات التي خدموها طوال عقود.

وإذا أردنا تصوير المسألة تصويراً داروينياً مبسطاً لقلنا إن الصحف التي تُقفل ابوابها وتلك التي تنتظر إنما تعلن أن المجتمع والطبقة والجهة السياسية التي زعمت تمثيلها والنطق باسمها، لم تعد – ببساطة – في حاجة اليها وإنها امتلكت منابر وأجهزة دعوية ايديولوجية تواصل ضخ ما تراه ضرورياً من حملات التعبئة والحشد وتجييش الجمهور او في تكييف جمهورها وفق ضرورات المرحلة. هكذا يعود الإعلام في لبنان ليؤدي الوظيفة المناطة به في بلدان الديكتاتوريات والطغاة، لكنه هنا على نطاق أضيق محصور بالطائفة والجماعة.

وآخر من يحق لهم النواح على هذا الواقع، هم من شقوا الطريق اليه.