يحتاج الشيوعيون اللبنانيون، من جملة ما يحتاجون، إلى من يصارحهم بواقع «حزبهم» المتراجع. ومن مصلحتهم، ومعهم باقي أهل اليسار الحقيقي، الإنصات إليه. لأن الاستمرار في سياسات صمّ الآذان ورفض النقد و«تكفير» صاحبه، المعزّزة بالتبريرات (والعصبيات!)، يفاقم من واقع تراجع الوزن وضعف التأثير وضمور الحضور وهامشيته. وهو الواقع الذي يعرفه الشيوعيون. لكنهم، عوضاً عن المبادرة أو المحاسبة، يوكلون أمر المعالجة إلى «الحزب» العاجز بدوره عن الارتقاء إلى ما دون هذا التكليف، فكيف بالتصدّي له. وهذا الأخير، وبدلاً من مصارحتهم بعجزه فإنه يكتفي من السياسة والتنظيم بتصريف الأعمال التي كثيراً ما يشوبها الارتجال والطيش والحماسة.
فالحضور والتأثير وامتلاك الفاعلية في رسم الاستقطابات السياسية وتوجيه دفّتها، وهي من عناوين ومعاني الدور اليساري المفقود، الذي نطمح، جميعنا، إلى استعادته، كل ذلك يحتاج، ابتداءً، إلى وضوح الرؤية وسعة الفكر وجدّية القول وجذرية الفعل… أي بما يخالف ويقطع مع كل ما هو حاصل من ممارسات سياسية وسياسات تنظيمية ساهمت في إضاعة الحدود بين اليسار واليمين وخلطت بينهما أشدّ ما يكون الخلط.
وحيث إن الواقع يقول إن «الحالة الشيوعية» في لبنان، أكبر من «حزبها» وأوسع من شلله المتناثرة، فإن الكلام سيتجاوز القلّة الحزبية – الإدارية إلى التركيز على مخاطبة «الحالة» العابرة لمجاميع الطوائف والمذاهب والمناطق والقطاعات، فضلاً عن ترسيمات المصالح الداخلية شبه «الثابتة» أو الخارجية المتحوّلة… أي أنها على النقيض التام من حال «الحزب» المأسور، بل المتقوقع، في ثنائيات سياسية واجتماعية وثقافية بليدة لا معنى لها في عالم السياسة المعقّد وواقعها المركّب.
وإذا صحّ أن السياسة، في واحد من تعريفاتها: أولويات ومشتركات. وهو أكثر من صحيح. فالمعنى يوجب عليهم، اليوم قبل الغد، إعادة النظر الشاملة والعميقة في نوع وطبيعة اصطفافات «حزبهم» السياسية، وأن يعوا، ربطاً بفائض الأدلة والبراهين، أن مشتركاتهم مع المقاومة كبيرة وعميقة، وتتجاوز بأشواط كل المشتركات المفتعلة أو المستحدثة مع هذا وذاك من الشخصيات والقوى والأحزاب التي باتت، وللمفارقة، تقدّم نفسها، ومن غير حرج، بوصفها شريكة في رصيد الشيوعيين النضالي أو تبني عليه (ما معنى الاستمرار في وضع صورة جورج حاوي إلى جانب صور بيار الجميل ورفيق الحريري وجبران تويني؟ وما معنى تغنّي سمير جعجع وأمثاله من الفاشيين الصغار بالمقاومة الوطنية ونضالاتها؟ وما معنى سكوت الشيوعيين، ولا نقول «الحزب»، عن «جرأة» هؤلاء في إهانة تاريخهم والإساءة إليه؟). الجواب واضح ولا حاجة لى عناء التدقيق: الاستثمار في الرصيد الذي صنعته دماء الشيوعيين للنيل من المقاومة التي يقودها «حزب الله»، وإن تعذّر الاستثمار فالتترّس به، وإن تعذّر هذا وذاك فلا أقل من استباحته. غير أن اللافت والمريب هو شبه الصمت «الشيوعي» والحزبي – الإداري الذي إن استبعدنا تواطؤه، وهو حتماً مستبعد، فليس هناك غير العجز. والعجز عن حماية الشهداء من تخاطف الأعداء لهم والتغاضي عن تلويث ذكراهم من قبل من سقطوا في مواجهته يدلّ ذلك على حال اللامسؤولية التي صار إليها «الحزب». فصمته على إهانة الشهداء، والمتاجرة بهم، وتهاونه، حتى لا نقول تقاعسه، في هذه الجزئية ذات المضامين الرمزية الكبيرة، لا يجب أن يبقى من دون مساءلة. ناهيك عن تهاونه بالمناضلين الذين يدفع بهم إلى «التهلكة» السياسية التي تعبّر عنها اصطفافاته الملتبسة، وفتحه لقنوات التنسيق مع أصحاب المشاريع التقسيمية الذين سبق للشيوعيين مقاتلتهم. فثوابت العداء لإسرائيل والولايات المتحدة وكامل معسكر الغرب المسؤول عن استيلادها لا يجب أن تكون موضع خلاف ولا أخذ وردّ إلا بما يساهم في تجذير العداء وتصليبه، وهي واحدة من أكبر المشتركات التي يُبنى عليها وأعظمها.
فالتهاون في شأن الماضي النضالي والتفريط به هما امتداد للتهاون والتفريط اللذيْن تعكسهما، اليوم، المواقف السياسية الخاطئة والقاصرة عن تلمّس الواقع والبناء عليه، والتي تقطع مع كل التراث النضالي المعروف. وهو ما بات يسم كل ميادين العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي التي يحضر فيها «الحزبيون».
لم يكن البيان الصادر عن «الحزب الشيوعي» تعليقاً على مجزرة الطيونة – عين الرمانة أُولى السقطات والأرجح أنها لن تكون الأخيرة، فالأفق الحزبي المتوقع ملبّد بالسقطات الآتية على ريح من «خفّة» وغيوم من ضياع. فمنذ نجاح «الشباب الحزبي» في تولّي قيادة الحزب والسيطرة على قراره الإداري، وسقطاته الوطنية والسياسية والاجتماعية تتوالى. والتي تسارعت على وقع ما يسمى، يمينياً، بـ «ثورة ١٧ تشرين». فابتداءً من ذاك التاريخ و«الحزب» غارق في التخبّط والفوضى بدليل المسار ورفاق المسير (مرتزقة ما يسمى بالمجتمع المدني، وبعض أحزاب وشخصيات اليمين الفاشي) الذين نصّبوا أنفسهم أو نصّبهم «الشباب الحزبي» طليعة ثورية. فكل تلك السقطات التأسيسية، وما تلاها، تشي بحقيقة الواقع الذي يعيشه «الحزب»، أي واقع الاختطاف وتغريبه عن منطلقاته النضالية وأهدافه الثورية التي رُسمت بالاستناد إلى تلك المنطلقات العظيمة التي طبعت معظم تاريخه.
فمقابل أسوأ الفعل الذي ارتكبه القاتل الطليق سمير جعجع، وما تلاه من فبركات لا تنطلي على ساذج، سجّل «الحزب الشيوعي» أسوأ القول. وحين نقول «الحزب الشيوعي»، ولا نقول الشيوعيون، فالمقصود هو الخطّ السياسي الهجين الذي تسلل إليه وسيطر عليه واختطف قراره.
فقد أفتى مختطفو «الحزب» و«مكتبه السياسي»، الساعون، عن قصد أو غير قصد، إلى محو تاريخه النضالي وإخراجه منه، مستبقين التحقيقات القضائية «النزيهة» التي يعوّلون عليها، حتى بعد اتضاح الصورة والبيانات الرسمية الأولى، بتحميل ضحايا المجزرة المسؤولية عما أصابهم.
مع ذلك، وبرغمه، فإن هناك ما هو أبعد من هذه الجزئية الخطيرة التي جاءت لتتوّج مساراً حافلاً. فالجماعة (وقد جعلوا من «الحزب» أقرب ما يكون إلى الأخوية المغلقة الخاصة بهم!) وخلافاً لما يفترضون، أو يبنون عليه من «ضوضاء» وطنية ومعيشية وقضائية، أوقعوا «الحزب»، في أحضان القاتل الطليق ومشغّليه، وبمجانيّة لا تعوزها الدلائل.
وحتى لا يُساء الظن، وسوء الظن من الخصال التي تميّز من لم يتعلّم سماع الكلام المغاير، أو أقلّه الذي لم تألفه أذناه، نقول إن دافعنا إلى الحديث عن «الحزب» الذي بات، بفضل المتسلّلين إلى مكتبه السياسي، على هامش المشهد اللبناني والعربي، هو الرغبة الحقيقية والصادقة بأن يكون للشيوعيين الذين سبق لهم أن تصدّوا للمؤامرات، وتصدّروا المشهد الوطني والقومي، ولم يبخلوا بالتضحيات، أن يكون لهم دور ووظيفة وفعّالية الماضي النضالي غير البعيد، وبما يتجاوز ما أناطوا أنفسهم به أو أناطه بهم غير طرف وغير جهة ممن لا همّ لها غير دوام الحال الراهن.
وبعيداً عن الكلام المعسول الذي اعتادوا سماعه، خصوصاً بعد الاستدراج المتدرّج والخبيث لبعضهم، عبر «حزبهم»، إلى القطع مع تاريخهم الطافح بالنضالات ذات المعنى والجدوى، نقول إنهم، كشيوعيين، وأصحاب السبق في المقاومة، معنيون إذا ما أرادوا فعلاً لا قولاً الحفاظ على أمانة اليسار، بالسعي، بل والمباشرة في التصدّي لمهمة تصحيح مسار «حزبهم» الذي اعوجّ كثيراً وبات محط استخفاف لا يليق بمن حمل ذات يوم هموم الإنسان في كل مكان وزمان.
لكنّ المؤسف أن حال الشيوعيين اليوم لا تختلف عن حال باقي اللبنانيين الذين يعيشون حال فصام سياسي يجعلهم في أحيان كثيرة يخلطون بين الأسباب والنتائج، أو بين الرغبات والوقائع. والمؤسف أكثر أن حالهم من حال الطوائف المختطفة أو المسترهنة من قبل قبضة من سماسرة السياسة وتجارها. فالقلة الإدارية التي قفزت إلى مركز القرار تسترهن «الحزب» بعصبيات، وتتصرّف وكأنها الوصية المفوّضة والمالكة الوحيدة لزمام المسيرة الطويلة التي خطّها الشهداء من غير أن تجد من يردعها.
لذلك، فإن المدخل الذي لا مدخل غيره لاستعادة «الحزب»، وتالياً الاعتبار والوزن والتأثير، يتطلب تحرير الحزب من مختطفيه الذين سبق لهم أن تسلّلوا إلى صفوفه، ومن بعدها أمسكوا بالقرار.
إن مهمة الشيوعيين، كل الشيوعيين، اليوم هي العمل على استعادة حزبهم المختطف، وتحريره من المتسلّلين. وهي مهمة تتطلب تضافر الإرادات ووحدة الطاقات… وإلا فإن تموضعنا إلى جانب سمير جعجع وأمثاله من الفاشيين سيكون هو المصير.
وليكن موعدهم مع المؤتمر الموعود مناسبة للخلاص من هذا «الفيروس» الذي يوشك أن ينال من كامل المناعة المعزّزة بدماء الشهداء وتضحياتهم، وبما يفتح الطريق أمام مستقبل لا يقطع مع تراث الماضي النضالي المشرّف، بل يبني عليه.