عديدة هي المواد في الدستور اللبناني التي أثار تطبيقها، وما يزال، جدلاً طويلاً لا ينتهي.
منذ تسع سنوات، وبمناسبة انتخاب خلف للرئيس إميل لحود، أثير موضوع النصاب الواجب توافره في جلسة الانتخاب. هل هو نصاب الثلثين لأن المادة 49 من الدستور تشترط انتخاب الرئيس بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، أم هو نصاب الأكثرية زائداً واحداً الذي تشترط المادة 34 توفره لصحة انعقاد سائر جلسات مجلس النواب وقانونيتها؟
إن هذا الموضوع سبق أن انقسم حوله في أواخر الستينيات حقوقيون ودستوريون كبار أمثال ادمون رباط وعبده عويدات من جهة، وانطوان بارود وأنور الخطيب من جهة أخرى.
إلا أنه تبين من مراجعة السوابق في انتخابات رؤساء الجمهورية أن جلسات انتخاب الرئيس لم تكن تنعقد أصولاً ـ حتى في أكثر الظروف شدة وخطورة ـ إلا بعد اكتمال نصاب الثلثين.
وقد تمشى مجلس النواب على هذا الاجتهاد بمناسبة الشغور الحالي لمنصب رئاسة الجمهورية بالرغم من الدعوات التي نسمعها، من حين الى آخر، للعودة عن هذا الاجتهاد تسهيلاً لانتخاب رئيس.
ثمة مواضيع أخرى، متصلة بشغور منصب رئاسة الجمهورية وتعذر انتخاب رئيس جديد، ما تزال تثير جدلاً واسعاً:
هل المادة 75 التي تعتبر مجلس النواب الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية هيئة انتخابية، لا هيئة تشريعية، وتفرض عليه «الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة او أي عمل آخر»، هل هذه المادة تحظر على المجلس في حال شغور منصب الرئاسة القيام بأي عمل قبل انتخاب الرئيس؟
يجيب البعض بأن «التئام» المجلس الذي نصت عليه هذه المادة يفترض أولاً انعقاد الجلسة بالنصاب المطلوب، وعندها فقط يصبح من واجب المجلس الشروع في انتخاب الرئيس دون مناقشة ودون القيام بأي عمل آخر سوى الاقتراع.
ثم، إن هذا السؤال يقود الى سؤال آخر يتعلق بحضور النائب جلسات مجلس النواب، لا سيما جلسة انتخاب رئيس الجمهورية. هل حضور النائب هو حق له يمارسه كما يشاء ام هو واجب عليه ؟
فالنائب، من جهة، «يمثل الأمة جمعاء ولا يجوز ان تربط وكالته بقيد او شرط من قبل ناخبيه» (المادة 27). وان الامتناع عن حضور جلسة من جلسات مجلس النواب قد يكون، كما الانسحاب من الجلسة، تعبيراً عن موقف اتخذه النائب بحكم الوكالة غير المشروطة الممنوحة له. هذا فضلاً عن أن الدستور لا يرتِّب أية نتيجة على تغيب النائب، ولا يحمِّله أية مسؤولية. كذلك النظام الداخلي لمجلس النواب؛ بعد أن يؤكد عدم جواز تغيب النائب عن أكثر من جلستين إلا بعذر مشروع، يكتفي بالقول إنه عندما لا يتم عقد جلسة بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني، فإن أسماء النواب المتغيبين من دون إذن او عذر تُدرج في محضر الجلسة التالية.
إلا ان الدستور، من جهة أخرى، نص على ان المجلس يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق انتهاء ولاية الرئيس، وأكد في أكثر من مادة من مواده على انعقاد المجلس بحكم القانون، أي دون حاجة الى دعوة، فوراً ودون إبطاء، في حال خلو سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو لأي سبب آخر. لذلك فإذا أدى الامتناع عن ممارسة حق الانتخاب الى شغور موقف الرئاسة فإن الامتناع المتعمَّد يشكل مخالفة لروح الدستور، إن لم يكن لنصوصه التي تدعو النواب بإلحاح للاجتماع وتجنّب الشغور في موقع الرئاسة.
ويبقى بالطبع السؤال الكبير الذي طُرح بمناسبة انتخاب الرئيس ميشال سليمان وهو السؤال المطروح اليوم في فترة الشغور التي نعيشها منذ أكثر من سنتين:
هل خلو سدة الرئاسة للأسباب المذكورة في المادة 74 من الدستور تشمل حالة تعذر انتخاب رئيس ضمن المهلة الدستورية، وتؤدي بالتالي الى إسقاط شرط الاستقالة المسبقة من أجل انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى؟
وبعبارة أخرى،
إن المادة 74 المذكورة لحظت حالتي وفاة الرئيس او استقالته، وأضافت «او سبب آخر». من المتفق عليه ان شرط الاستقالة المسبقة يسقط في حالتي وفاة الرئيس او استقالته، اذ لا يُعقل فرض هذا الشرط عند حدوث الشغور لأمر طارئ وغير متوقع.
هل هذا المنطق ينسحب على حالة تعذّر انتخاب رئيس ضمن المهلة الدستورية وهي حالة شاذة وفريدة يصعب تصور حدوثها في الانظمة الديموقراطية؟
إن المجتمعين في الدوحة عام 2008، الذين كانوا يمثلون كل القوى السياسية المتخاصمة في ذلك الحين أجابوا على هذا التساؤل اذ ورد في اتفاق الدوحة بأن الأطراف اتفقوا:
«على ان يدعو رئيس مجلس البرلمان اللبناني الى الانعقاد طبقاً للقواعد المتبعة خلال 24 ساعة لانتخاب المرشح التوافقي العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، علماً بأن هذا هو الاسلوب الأمثل من الناحية الدستورية لانتخاب الرئيس في هذه الظروف الاستثنائية».
وقد تبنى مجلس النواب قرار لقاء الدوحة، فانتخب الرئيس سليمان الذي كان قائداً للجيش دون ان يكون قد استقال مسبقاً ودون تعديل الدستور.
هذه الأسئلة، وكثيرة غيرها، متروكة اليوم لاجتهاد الحقوقيين، وأحياناً مع الأسف لمتطفلين على القانون يقدّمون الجواب الذي يتناسب مع أهوائهم والمصالح، بحيث بات الدستور، كما قيل، وجهة نظر.
ما العمل إذن؟
إن وثيقة الوفاق الوطني قدَّمت حلاً بأن أولت مهمة تفسير الدستور الى هيئة قضائية مستقلة هي المجلس الدستوري الذي لحظت إنشاءه. إلا أن النواب أنفسهم الذين سبق لهم في الطائف أن أقروا صلاحية تفسير الدستور للمجلس الدستوري عادوا فانتزعوا منه هذه الصلاحية لدى إقرار نظامه. وقد اعتبر النواب بما يشبه الإجماع بأن حق تفسير الدستور يعود للمجلس النيابي وحده ولا يجوز التنازل عن هذا الحق الى أي مرجع آخر.
كأن المجلس الدستوري لا يعمد الى تفسير الدستور في كل مرة يمارس فيها صلاحية مراقبة دستورية قانون معين لمعرفة ما اذا كان مطابقاً لنص معين في الدستور وفق مفهوم المجلس الدستوري وتفسيره للنص المزعوم مخالفته!
إن مجلس النواب الذي احتفظ لنفسه بحق تفسير الدستور منذ أكثر من 23 سنة لم يقم طيلة هذه الفترة بتوضيح أي من المواد المتنازع على تفسيرها، مكتفياً بقرارات يتخذها مكتب المجلس من حين الى آخر. إلا ان هذه القرارات التي تعالج آنياً بعض الإشـكالات التي تعترض عمل المجلس تبقى قابلة للرجوع عنهـا وهي ـ اذ تعبِّر عن توافق سياسي توصل اليه النواب في ظرف معين ـ لا تقوم مقام تفسير الدستور، ولا تزيل الغموض الذي يكمن في بعض أحكامه، بصورة نهائية.
فلا نصاب الثلثين لانتخاب رئيس الجمهورية، ولا دور مجلس النواب عند شغور منصب الرئاسة ولا امتناع النائب عن حضور جلسة الانتخاب ولا أيضاً الاستقالة المسبقة للترشح في حال تعذر انتخاب رئيس الدولة ضمن المهل الدستورية ـ وجدتْ جواباً حاسماً لها عن طريق مجلس النواب، مقبولاً من الجميع.
لذلك يمكن، في رأيي، إعطاء المجلس الدستوري، بالإضافة الى صلاحية مراقبة دستورية القوانين والبتّ في النزاعات الناشئة عن الانتخابات، صلاحية استشارية، هي إبداء الرأي في تفسير مادة من مواد الدستور تثير الالتباس أو يكتنفها الغموض.
ويُعطى حق مراجعة المجلس الدستوري لغرض التفسير الى كل من الرؤساء الثلاثة بالإضافة الى عشرة نواب، كما هو الحال اليوم بالنسبة للطعن في عدم دستورية قانون معين. وإن الرأي الذي يصدر عن المجلس الدستوري ضمن مهلة معقولة يُتلى في أول جلسة تلي صدوره من جلسات مجلس النواب ويُنشر في الجريدة الرسمية.
إن الاختصاص الاستشاري هو أمر مألوف في الدول التي لديها مجالس دستورية. ففي فرنسا مثلاً أُعطي رئيس الدولة ورؤساء المجالس وعدد معين من النواب حق استشارة المجلس الدستوري عند تطبيق مادة معينة من مواد الدستور الفرنسي وما يتفرع عنها، بالإضافة الى النصوص المتعلقة بالانتخاب او بالاستفتاء.
ان ميزة هذا الطرح هي أنه لا يتناقض مع توجه مجلس النواب بحصر تفسير الدستور في يده، ولا يحتاج الى تعديل الدستور بل يكفي من اجل منح المجلس الدستوري هذه الصلاحية ادخال تعديل بسيط على قانون إنشائه.
هل نحتاج الى التكرار بأن أهمية الرأي الاستشاري ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقة التي يوحيها المرجع الذي أصدره؟ هكذا بالنسبة للمحكمة الدستورية في فرنسا وللمحكمة العليا في الولايات المتحدة والمحكمة الدستورية الفدرالية في المانيا.
لذلك فإن الخطوة المقترحة لا بد ان تتزامن، في لبنان، مع تعديلات جذرية على قانون المجلس الدستوري من أجل أن تستعيد المؤسسة الثقة التي زعزعتها كبوات المجلس في الآونة الأخيرة. المطلوب هو ايجاد صيغة جديدة مبتكرة للمجلس الدستوري تأخذ بالاعتبار، في آن معاً، تجارب الماضي القريب وخصوصيات الواقع اللبناني.
ان الدخول في تفاصيل هذه الصيغة بأفكار واضحة قابلة للتطبيق، بما في ذلك آلية تعيين الأعضاء وكيفية اتخاذ القرارات، يستحق بأن يكون، وحده، موضوع معالجة على حدة.