Site icon IMLebanon

…إلى قيادة “حزب الله”

 

هي بداية مكاشفة صريحة جداً، وهي بالتأكيد لا تطال موضوع المقاومة ضد العدو الإسرائيلي ولا تتناول حرب “حزب الله” الإستباقية ضد الإرهاب التكفيري.

 

هي تتعلق حصراً بسياسات الحزب الداخلية خصوصاً ما يتصل منها بتحالفاته ومقارباته لفكرة الدولة والمجتمع والخصوصيات اللبنانية.

 

اللبنانيون الشيعة والكيان

 

يجمع الباحثون على أن التأسيس لإعادة ترتيب تموضع اللبنانيين الشيعة في الدولة ومشاركتهم في التصدي للإحتلال الإسرائيلي ولمشاريع التقسيم والتوطين كان من نتاج حركة الإمام السيد موسى الصدر ومن خلال سلوكياته الأخلاقية والوطنية وكذلك أدبياته ومواقفه السياسية، وهو تأسيس لم يأتِ من فراغ، بل يتصل بميراث الأوائل من علماء الشيعة ونخبهم الثقافية والسياسية الذين لعبوا أدواراً مصيرية خلال تداعيات التحولات الكبرى في العالم والمنطقة بين الحربين العالميتين.

 

على أن حركة الإمام الصدر حملت عناوين ثلاثة متميزة، أولها: ترسيخ فكرة نهائية الكيان اللبناني، وهي الصيغة التي تم إعتمادها لاحقاً في دستور “الطائف”، وثانيها: وضع الأسس لإصلاح النظام السياسي وإعادة بناء السلطة والدولة وفق رؤية متكاملة حملت عنوان “ورقة العمل الشيعية” الصادرة عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العام 1977، وثالثها: العمل على إطلاق مقاومة لبنانية ضد إعتداءات الكيان الإسرائيلي على لبنان، وبالأخص جنوبه.

 

أراد الإمام الصدر من خلال هذه العناوين حجز موقع وطني متقدّم للشيعة في لبنان الذي قال عنه “إن أبعاده في عقل العالم وقلبه تتجاوز مئات المرات أبعاده الحسية”. ولم يكن ذلك تنظيراً، بل كان يشكّل رؤية متقدّمة للوطن الذي فهمه وتفاعل معه الإمام الى حدّ عشقه بإعتباره واحة لممارسة مفهومين إنسانيين أساسيين: الحرية والتعايش.

 

ولست هنا بصدد محاكمة أيٍ من المكونين الشيعيين “حركة أمل” و”حزب الله” بناءً على مفاهيم وأدبيات وسلوكيات ومواقف الإمام، ذلك أنهما لم يتمكّنا من إستيعاب جوهرها وتناغمها، والأهم التلازم في تطبيقها، وإن كان لا بد من الإعتراف للحزب، كحالة مقاومة حصراً، بتحقيق بعض من آمال الإمام على مستوى تحرير الأرض والإستعداد الدائم للدفاع عن لبنان.

 

إلا أنه لم يعد بالإمكان الصبر والسكوت على أداء ما يسمى “الثنائي الشيعي”، خصوصاً وان هذه التسمية وضعت الشيعة بأكملهم في خانة تحمّل المسؤولية عن تصرفات هذا الثنائي، إنطلاقاً من محاولات التسويق والدعاية لفكرة أنهما الأكثر تمثيلاً للمكون اللبناني الشيعي، مع العلم أن القاصي والداني بات متيقّناً من أننا أمام أحادية ترفع معها وفقاً لمصالحها الحالة الشيعية الأخرى التي باتت محدودة التأثير والقدرات، عدا عن إمعانها في الفساد والإفساد على المستويين الشيعي والوطني.

 

ولن أتوقف عند خطاب قيادة الحزب المكرّر والإنكاري حول تحديد المسؤوليات عن إنهيار الدولة ومؤسساتها وإدارتها وضياع أموال اللبنانيين مقيمين ومغتربين، والأخطر وضع الأجيال اللبنانية أمام مستقبل مجهول. ذلك أن الأجدى هو مصارحة “حزب الله” الذي امتلك القوة الشعبية والسياسية وحتى العسكرية والأمنية الأكثر تأثيراً في الحياة السياسية منذ الخروج السوري من لبنان العام 2005، بأنه هو المسؤول الأبرز وليس الوحيد عن كل ما سبق.

 

غير أن المؤسف اليوم أن قيادة الحزب، وفي ظل هذا الإنهيار الكارثي الذي يشهده لبنان، لم تفكر في إعادة النظر في خطابها السياسي والإعلامي والدولتي، كما لم تبادر الى البحث في تغيير مقارباتها للشأن الداخلي والإنتقال بأدائها الى مستوى يرقى الى مواجهات التحديات السياسية والوطنية والإجتماعية والإقتصادية التي يواجهها اللبنانيون.

 

متى يستفيق “حزب الله” ويقتنع بأن المخططات والضغوطات الأميركية التي يقول أنه يواجهها بـ”الصبر والبصيرة”، إنما تحقق نجاحاتها بأدوات تعيش في حضنه بعدما منح هذه الأدوات أماناً شعبياً من خلال تصديه لأي حراك إستهدفها، كما تعتاش على قوته التي كرست لها نفوذاً ومواقع متقدمة في السلطة والإدارة والمؤسسات؟

 

والأغرب أن قيادة الحزب، وبدلاً من مواجهة هذه الحقائق بحكمة ودراية وحزم، قرّرت أن تبتدع منظومة أعداء جديدة تبدأ بحزب “القوات اللبنانية” ولا تنتهي بالمنظمات غير الحكومية “NGOs”، تكون مادة لحملاتها السياسية والإعلامية على أبواب الانتخابات النيابية، علّها بذلك تصرف أنظار الجمهور عن تلك الحقائق وتؤجل إستحقاق مواجهتها حتى يأتي الله أمراً كان مفعولاً!

 

وبعيداً عن النوايا السياسية للقوات، وعلى الرغم من صحة المعلومات حول المهمات الموكلة لبعض تلك المنظمات والأدوار المنتظرة منها على صعيد خلط الأوراق سياسياً وإنتخابياً في وجه “حزب الله”، إلا أن الوقائع السياسية والإقتصادية والمالية والنقدية التي يعيشها لبنان منذ سنوات عدة، أثبتت أن الحلفاء وشركاءهم في المواقع المالية والإقتصادية في الدولة شكّلوا رأس حربة للمشروع الأميركي وممرات سهلة لقوننة آليات تنفيذه. وبالتالي فإن الحزب المحاصر من قِبَل حلفائه بشكل مباشر سيبقى خاضعاً للضغوطات الأميركية بشكل غير مباشر. وطالما أن الحزب قَبِل بالتعايش مع منظومة الحلفاء المرتهنة للأميركي ولغيره من القوى الخارجية لأسباب كثيرة آخرها التهديد بالعقوبات، فإن إنتظار أن يشفى الحزب من “فوبيا” الخوف من تداعيات فك تحالفاته وصداقاته، أو على الأقل إعادة صياغتها وتهذيبها، لم يعد يجدي نفعاً. وبالتالي صار لا بد من التحرك على مسارات أخرى تعمل على تحرير الشيعة خاصة واللبنانيين عامة مما تبقّى من تلك المنظومة الفاسدة والفاشلة، حتى ولو كان ذلك سيستدعي مواجهة سياسية وإعلامية حادة ضد الحزب.

 

“نحن قاسم”

 

خلال زيارة شخصية لإيران منذ فترة، سنحت لي الفرصة أن أراها بعيون مواطنيها الموالين للنظام ولولاية الفقيه والمعارضين لهما. فوجدت أن المشترك بينهم هو ولاؤهم لإيران الوطن والأمة وتمسكهم الشديد معاً بمشروعهم “النووي” السلمي بإعتباره حقاً قومياً ومكسباً إستراتيجياً يضع بلدهم في مصاف الدول المتقدمة علمياً وتكنولوجياً وإقتصادياً وحضارياً.

 

قد لا يعجب البعض هذا الكلام، ولكنه واقع أنصح كل من يقارب الشأن الإيراني الداخلي من منطلق الرهان على إمكانية إحداث شرخ بين الدولة والشعب أن يبحث عن منافذ أخرى للتأثير على أداء النظام الإيراني خارجياً.

 

غير أن ذلك لا يُلغي مطلقاً إستمرار الحراك الداخلي إنطلاقاً من التنافس السياسي من أجل توفير مقومات الحياة الكريمة للشعب الإيراني أولاً، ومن ثم السعي الى تحقيق مصالح إيران وتثبيت نفوذها في المعادلات الإقليمية والدولية.

 

على هذا الأساس، يمكن قراءة الدور الذي تصدى للقيام به الحاج “قاسم سليماني” الإيراني الوطني بإمتياز وأحد أعمدة نظام ولاية الفقيه.

 

وبالتالي، فإن رفع شعار “نحن قاسم” من قبل قيادة “حزب الله” في ذكرى إغتيال سليماني، يعني أن الحاج قاسم وفق توصيف الحزب، هو الأنموذج الذي يجب أن يحتذى به لخدمة الناس والدولة. وبتبسيط أكثر، فإن سليماني كان يبني سور حماية إقليمي لإيران يمنع عنها الحرب الخارجية المباشرة، في وقت كانت فيه قوى النظام تعمل على تطوير البنى التحتية على مساحة الأراضي الإيرانية كافة بهدف تسهيل حياة المواطن، كذلك تسعى الى تحديث أداء مؤسسات الدولة وإداراتها بما يخدم تأمين متطلباته في عيش كريم قائم على حقه على مسؤولي دولته أن يعملوا جاهدين لكسب رضاه!

 

لذلك يصح إطلاق شعار “نحمي ونبني” على هذه المعادلة الإيرانية، وليس على “حزب الله” الذي إعتمد الشعار ذاته عنواناً لحملاته الدعائية خلال الانتخابات النيابية اللبنانية العام 2018، ولم يُطَبِق من “نبني” حرفاً.

 

وعلى سيرة الانتخابات، لم أسمع من أصدقائي هناك الموالين والمعارضين أي ذكر لبدعة “التكليف الشرعي” عند الحديث عن المزاج الشعبي الإيراني أثناء عملية الإقتراع، بل أن أحد الموالين أبدى إستغرابه لقبول الشعب اللبناني، وبالأخص منه الشيعة، سوقهم الى صناديق الإقتراع مكبّلين بهذا الشعار الذي يسقط حقهم في الإختيار الحر لمن يمثلهم في البرلمان، كذلك أخبروني بأن دائرة طهران الانتخابية تتكون من ثلاثين نائباً تتنافس فيها لوائح مفتوحة متعددة وشخصيات مستقلة، والأهم أن الناخب الإيراني حر في تكوين لائحته الخاصة من كافة المرشحين من دون تدخل أو سطوة أو رشوة أو تهديد!

 

إن إجراء مقارنة بسيطة بين أداء “حزب الله” في لبنان وبين أداء النظام الإيراني الذي يراه الحزب ويؤمن به على أنه المثال الذي يجب أن تكون عليه الأنظمة والدول، تظهر أن الحزب يعيش حالة من الإنفصام السياسي بين مثالٍ يقدّسه وبين واقع متخلف يشارك في صناعته.

 

إخوتي في قيادة “حزب الله”، أصدقكم القول ان معظم اللبنانيين وفي مقدمهم غالبية الشيعة غير مهتمين بالحفاظ على ثنائيتكم القاتلة للديموقراطية والمانعة لتنظيف الدولة ومؤسساتها وإداراتها من المفسدين. كما أن معظم اللبنانيين وعلى رأسهم السواد الأعظم من المسيحيين غير معنيين بإستمرار تفاهم هش قاد البلاد الى خواء سياسي ووطني ومؤسساتي.

 

ومعظم اللبنانيين أيضاً لا يرون أن تمسككم بخوض معارك إنتخابية لإعادة إنتاج أكثرية موهومة كنتم فيها الحلقة الأضعف، سيؤدي الى قيام الدولة على أسس العدالة والقدرة والنظافة. مع التذكير بأن الأميركي الذي أطبق على جزء كبير من مسؤولي السلطة ومفاصلها، لو أراد لأبقاكم وحيدين في هذه الأكثرية. إلا أنه يبدو أن لعبة إستنزافكم من خلال حلفائكم وأصدقائكم قد أغوته!

 

اللهم إني بلغت، وللحديث تتمة.