للتفاهم النووي تأثيراته دولياً وإقليمياً، لكن في المدى المنظور، لن يكون تأثيره إيجابياً بمعنى التهدئة أو الدخول في بوابة الحلول، بل على العكس من ذلك، فإن التأثير المباشر هو التصعيد على مختلف الجبهات.
في العراق، يزداد التوتر المتعدد الجبهات. على جبهة حكومة العبادي، مع من يسميهم «قوى الفساد» التي حكمت العراق في الفترة السابقة وساهمت في تعميق الخلافات والتفتيت المذهبي والعرقي، لمصلحة تحاصص يكاد يشبه في طبيعته المرض السرطاني للبنان.
وإقليم كردستان منقسم بين من يدعو الى تقسيم العراق وانفصال الاقليم، ومن يدعو الى الحكم الذاتي المعزز في ظل الوحدة الوطنية العراقية، وما يتفرع عن هذا الصدام من تأثير للمجزرة التي يرتكبها نظام أردوغان بحق الأكراد في سوريا وتركيا والعراق.
في اليمن، تتسارع الأمور، ليس باتجاه استعادة وحدة اليمن، فعوض أن يدفع العدوان الأميركي ـ السعودي، نحو وحدة اليمنيين في مواجهته، شكلت طبيعة القوى المواجهة للعدوان، أحد أسباب التطورات الحالية التي أدت واقعياً الى عودة الانقسام اليمني الى شمال وجنوب، بعدما تعامل الجنوب (بمعظمه) مع الحوثيين وعلي عبدالله صالح كمحتلين لمناطقهم.
في سوريا، يتأخر «الحوار» بانتظار انتهاء معارك تثبيت موازين القوى العسكرية، أو تغييرها، سواء أتت من خارج سوريا أو من داخلها. فالشمال السوري يتعرض لمؤامرة خطيرة لا يمكن تسميتها إلا باحتلال عثماني جديد وبحجج مختلفة. وتستهدف هذه المؤامرة بالإضافة الى التأثير في الوضع السوري، العمل على ضرب النهوض الكردي ودوره والى تغيير موازين القوى داخل تركيا نفسها، باستعادة روح الانقسام التركي ـ الكردي وإعادة توحيد الأتراك تحت شعار التصدي للخطر الكردي، ما يجعلنا نستذكر بألم، صور المجازر التي ارتكبت ضد الأرمن في القرن الماضي واستعادتها اليوم ضد الأكراد وضد الشعب التركي نفسه.
في لبنان، يستمر نظام الانتظار والفساد، في القضاء على مؤسسات الدولة، حتى دولته، فانتخابات الرئاسة في الانتظار والمجلس النيابي والحكومة معطلان، والتعيينات الأمنية في الجيش وقوى الأمن أدخلت هذه الأجهزة في البازار السياسي ولعبة التحاصص والتجاذبات، ما يهدد دورها ووظيفتها ووحدة بنيتها.
وشكّل اعتقال الإرهابي أحمد الأسير، مناسبة جديدة لإظهار الانقسام وضرب ما تبقى من استقلالية القضاء والأجهزة الأمنية.
طبعاً في كل هذه التطورات، من العراق الى اليمن وسوريا ولبنان، لا يغيب طيف السعودية وقطر ومراهناتهما وتمسكهما بخياراتهما المرسومة في إطار المشروع الأميركي نفسه.
وحدها فلسطين، القضية والشعب، مغيبة من الخارج ومن الداخل الفلسطيني المنكفئ والمتصارع بين «الإمارة» و «البلدية»، فأطفالها يذبحون وأسراها يضربون عن الطعام والاستيطان يتقدم ضارباً مشروع الدولة المستقلة وحق الشعب الفلسطيني بالعودة.
&&&
نعم «قوى المواجهة» اليوم بحاجة الى مراجعة نقدية واضحة وصريحة. المراجعة لا تطال حتماً تحديد مكمن الخطورة على بلادنا. فالخطر الأول والثاني والثالث، على شعوبنا هو من المشروع الأميركي، الهادف الى إعادة رسم المنطقة على قاعدة تفتيتها وعلى أساس هدفين مستمرين، نهب ثرواتنا وحماية أمن الكيان الصهيوني وإنهاء قضية فلسطين وضرب حقوق شعبها… والمراجعة لا تطال الحلفاء الإقليميين لهذا المشروع من السعودية ودول الخليج الى تركيا وقوى الإرهاب المدعومة من هؤلاء جميعاً.
يجب أن تطال المراجعة المشاريع الأخرى «المواجهة» وقواها وبنيتها والدور الذي تلعبه إيجاباً في التصدي للمشروع الأميركي في أكثر من مكان وإعاقته، وسلباً لجهة طبيعة المواجهة التي تساهم الى حد كبير في ملاقاة التفتيت والحروب ذات الطابع المذهبي في نقطة ما.
وفي هذا المجال، لا بد من المصارحة، بأن تحالف الحوثيين مع علي عبدالله صالح، وانتشارهم على مدى جغرافية اليمن، وخصوصا في الجنوب، لم يلعب دوراً مهماً في مواجهة العدوان ولا في توحيد اليمن، بل على العكس من ذلك.
ولا بد من المصارحة أيضاً بأن «الحشد» في العراق لن يكون في مواجهة التقسيم، حتى ولو حسنت نيات قيادته العراقية أو الخارجية، بل سيكون مصدر تعبئة تساهم في إضعاف الجيش الوطني.
والمصارحة تصل الى سوريا، فالشكل الحالي من المواجهة، يؤدي حتماً الى إفشال مخطط السيطرة على سوريا وبالتالي سيكون له دور إيجابي في المواجهة، ولكن في المقابل فإن هذا الشكل وطريقة تعاطي النظام والقوى الحليفة وبنيتها وغياب منطق المواجهة الوطنية والحوار مع القوى الوطنية في الدولة والمعارضة، سيضع سوريا حتماً أمام خطر التقسيم الواقعي.
ولبنان، الذي عاش منذ أيام، كما في السنوات السابقة، يوماً باهتاً وعيداً فاتراً للنصر فلم يكن، ولا هو اليوم، عيداً وطنياً برغم أهمية وتاريخية الانتصار ودوره في ضرب الدور الوظيفي للكيان الصهيوني. طبعاً طبيعة «مشروع المقاومة» بصيغته الحالية لا يساهم في استكمال هذا الانتصار. إن عزل المقاومة عن مهمة التغيير يسهل جعلها مادة انقسام إضافية في التركيبة الطائفية من جهة، ويلعب دوراً سلبياً في «تأبيد» النظام الطائفي من جهة أخرى.
إن عدم بلورة مشروع «العروبة التقدمية» المتنوعة، في مواجهة المشروع الأميركي ومخاطره، لم يعد مجهول المسؤولية.
إن قوى اليسار بأوجهها المختلفة، بما في ذلك القوى القومية، هي أساسية في هذا المجال. إن غياب هذه القوى عن المواجهة وتنظيمها يفسح في المجال أمام تقدم المشروع المعادي من جهة وتقدم «المواجهات» ذات الطبيعة الدينية والمذهبية من جهة أخرى.
لا بد من مصارحة قوى اليسار، بأن «فترة الحمل طالت» وليس حتمياً أن يصل المولود حياً.
(&) الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني