IMLebanon

للبطريرك… حقّ التقدير

بعد أكثر من أربعة أعوام على اعتلائه السُدّة البطريركية أظهرت الوقائعُ أنّ البطريرك بشارة الراعي لا يتراجع عن موقفٍ اتّخذَه، وأنّ أولويته الحفاظ على الوجود المسيحي في إطار رعيته، وأنه منفتحٌ على الكلّ وهو على مسافة واحدة من الكلّ.

اللغط الواسع الذي أثارته زيارات البطريرك الرعوية مردها إلى سبب رئيسي وهو أنّ القوى السياسية تعاملت وتتعامل معها من منطلقاتٍ وخلفياتٍ سياسية، فيما الراعي ينظر إليها من زاوية واحدة وهي دينية بأبعاد وجودية.

والقوى السياسية لا تُلام كونها اعتادت أن تلعب بكركي دورَ رأس الحربة في القضايا الوطنية السيادية، ولكنّ هذا الدور فرضته وحتّمته الظروف السياسية المتصلة بحقبة الوصاية السورية وتغييب القيادات السياسية اعتقالاً ونفياً، وتصحير الحياة السياسية التي فَرضت على بكركي أن تعتلي المنبر وتتصدر المواجهة من أجل أن تكسر حاجزَ الخوف وتُجاهر بما يخشى الناسُ البوحَ به، وترفع مطالب الغالبية الصامتة المتعلقة بالحرية والسيادة والاستقلال.

فالبطريرك صفير، وللتذكير فقط، انكفأ طويلاً بعد عودة الحياة السياسية مع خروج الجيش السوري من لبنان، والمواقف التي كان يُطلقها ارتبطت بالأحداث والمحطات السياسية حصراً، ولكنّ الرأي العام كان يرفض رؤية صفير خارجَ إطار الصورة التي اعتاد عليها وتحديداً بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٥، وكان يصعب أيضاً على البطريرك السابق أن يجد نفسه بعيداً من الدور الذي لعبه على مدى عقدين من الحروب والوصايات.

وعلى رغم أنّ لكلّ بطريرك شخصيته ونهجه وأسلوبه، إلّا أنّ المشترَك بين كلّ البطاركة هو مصلحة الشعب المسيحي اللبناني والمشرقي، فيما كلّ واحد منهم يقدر جيداً كيفية إعلاء هذه المصلحة، ولا شكّ أنّ الراعي أخذ في الاعتبار عوامل عدة قبل السير على النهج الذي خطّه لنفسه، وأبرزها الآتي:

أولاً، مرحلة الوصاية السورية التي فرضت التركيز على البعد السيادي دون غيره اختلفت عما بعدها، لأنّ الخروج السوري أعاد التوازن إلى المشهد الوطني، والدينامية إلى الحياة السياسية، ولو جزئياً، لأنّ عودتها الكاملة تتطلّب عودة الحياة إلى طبيعتها والدولة إلى دورها، والأمر غير ممكن اليوم بفعل رفض «حزب الله» تسليم سلاحه للدولة.

ثانياً، «حزب الله» يختلف عن الجيش السوري ولو شكلاً لجهة أنه حزب لبناني حتى لو تقاطع مضموناً مع النظام السوري على إبقاء لبنان ساحة لمحور المقاومة ومنع قيام الدولة.

ثالثاً، الإحباط الذي شهدته الساحة المسيحية بين عامَي ١٩٩٠ و ٢٠٠٥ بفعل الحظر والقمع السياسيَين وتغييب القيادات المسيحية، تبدّد وأزيل بعد الخروج السوري وعودة العماد عون من المنفى وخروج الدكتور جعجع من المعتقل وعودة الكتائب إلى دورها السيادي.

رابعاً، الخروج السوري واستعادة الحياة السياسية حيويتها وعودة القيادات المسيحية كشف عن واقع خطير يتعلق بالتراجع المخيف للحضور المسيحي داخلَ الهيكل الإداري والعسكري للدولة نتيجة الهوّة الكبيرة التي فصلت المسيحيين عن الدولة إبان حقبة الوصاية، فضلاً عن غياب التوازن على مستوى الشراكة المسيحية-الإسلامية.

فلكلّ هذه الأسباب وغيرها يبدو أنّ البطريرك الراعي قد وجد بأنه يجب أن يعطي الأولوية للعنوان المسيحي على العنوان السيادي، ولكن من دون التخلي إطلاقاً عن السعي لإنجاز السيادة من خلال الممانعة في الداخل وانتظار نضوج الظروف الإقليمية، وهذا ما يفسّر افتتاح عهده بجمع القيادات المسيحية الأربعة وإطلاقه ورشة مفتوحة تحت عنوان إعادة التوازن والحضور المسيحي داخل الدولة، ورفعه الصوت عالياً بوجه الفراغ الرئاسي، ودفعه لإقرار قانون انتخاب يُعيد التأثير المسيحي، ودعمه كلّ المشاريع التي تفعِّل الدينامية المسيحية.

ويبدو أنّ البطريرك يخشى في حال استمرار التركيز على عنوانٍ أوحد أن يُنجز هذا العنوان بعد أربعة عقود ويستعيد لبنان سيادته وعافيته، ولكن من دون حضورٍ مسيحيّ يُذكر، ما يعني عندذاك أنّ على لبنان، الرسالة والنموذج والفرادة، السلام، فضلاً عن أنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، حيث يمكن التوفيق بين البعدَين السيادي والتمثيلي، خصوصاً أنهما يتكاملان.

وقد ترافق وصول الراعي مع الثورات العربية عموماً والثورة السورية خصوصاً وفي ظلّ المخاوف على وضع المسيحيين المشرقيين ومستقبلهم من منطلق أنّ أيّ تهجير يصيبهم يصعب بل يستحيل ربما تعويضه، فالتهجير بهذا المعنى هو تهجير نهائي إن في العراق أو سوريا أو غيرهما، وهذا ما يدركه النائب وليد جنبلاط أيضاً والذي يقوم بالمستحيل من أجل إبقاء الموحّدين الدروز في أرضهم السورية، وبالتالي تحوّل همّ البطريرك إلى كيفية تجنيب المسيحيين تداعيات التغييرات التي أصابت وتصيب بعض الدول العربية.

وقد شكلت زيارته للمسيحيين الذين اضطرتهم ظروفُ الحرب وتحديداً الانسحاب الإسرائيلي في العام ٢٠٠٠ إلى اللجوء لإسرائيل أكبر دليل بأنّ أولويته ليست الانفتاح على هذه الدولة أو تلك، ولا نسج علاقات مع هذا النظام أو ذاك، بل أولويته الشأن المسيحي حصراً، وما ينطبق على الدولة الإسرائيلية ينسحب على الدولة السورية من منطلق رفضه الدخول في الاصطفاف السوري الموالي والمعارض، وذلك ليس لأنه يضعهما على قدم المساواة، فيما هو في صميم الدعاة لتعميم ثقافة الحرية، بل لأنه لا يريد تحميل المسيحيين المشرقيين أكثر من قدرتهم على الاحتمال.

وبعد أكثر من ٤ سنوات على اعتلائه السدّة البطريركية لم يعد مسموحاً على القوى السياسية ألّا تدرك الأولوية التي تحرّك البطريرك الراعي، فهو يريد أن يكون صديقاً للجميع، ويحرص أن تكون أبوابُ بكركي مفتوحة أمام الجميع، ويسعى من خلال علاقاته العابرة للاصطفافات على ترسيخ الوجود المسيحي وتعزيزه، ويتمسّك بثوابت بكركي التاريخية والتي يتعامل معها بليونة لإبقاء الوصل مع كلّ القوى السياسية، وبالتالي زيارته الأخيرة إلى سوريا تندرج في هذا السياق، فضلاً عن أنّ الكلام عن النظام في سوريا ليس واقعياً، لأنّ النظام بصورته القديمة انتهى، والمهم بقاء المسيحيين في سوريا بمعزل عن هوية النظام المقبل.

ومن هنا، فليعمل كلُّ طرف ما يراه مناسباً من دون إرشاد الآخرين على الطريق التي يُفترض أن يسلكوها، فضلاً عن أنّ للبطريرك حقّ التقدير… حقّ تقدير ما هو الأنسب لرعيته…