لقاء فيينا الثاني خطا خطوة ثانية. اتفق المشاركون على الحل السياسي في سورية. المرحلة الانتقالية ستة أشهر. ومفاوضات لوقف للنار لا يشمل «داعش» والنصرة»، ثم تشكيل حكومة من النظام والمعارضة. وأخيراً انتخابات عامة بإشراف دولي بعد ثمانية عشر شهراً في ظل دستور جديد. اللقاء كما سابقه لم يعقد بين قطبين كبيرين فقط. هناك آخرون كثر وهم يزدادون عدداً، بخلاف ما كانت عليه الحال أيام الحرب الباردة. كانت الكلمة للجبارين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وكان التشدد والعناد من نصيبهما فقط. وليس على اللاعبين الآخرين، أياً كان حجمهم، سوى الالتزام سواء توافق زعيما العالم أو اختلفا. وذريعتهما عدم تعريض الاستراتيجيات الكبرى للاهتزاز أو الاختراق. اختلف الزمن. أزمات الشرق الأوسط اليوم ليس مردها انهيار التوازن الجيوسياسي في المنطقة فحسب، كما عبر وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسينجر. المشكلة أيضاً أن القوى الإقليمية التي كانت تخشى سطوة الدولتين العظميين قبل عقود باتت مصدر التشدد والعناد. بات الميدان مفتوحاً لكل الدول. ارتفع عدد المشاركين في لقاء السبت الماضي. في حين اقتصر مؤتمر يالطا إثر الحرب العالمية الثانية على القادة المنتصرين الثلاثة أو الأربعة. لذا ليس مفاجئاً في ظل غياب نظام دولي واضح أن يتحول الإقليم كله إلى إقليم فاشل. فمنذ وصف الصومال في عقد التسعينات من القرن الماضي بأنه دولة فاشلة، كرت السبحة ولحقت به دول. ولا فرق بين دولة انهارت هياكلها ومؤسساتها وتلك التي ماتت فيها السياسية، وارتدّت مجتمعاتها إلى مكوناتها الطائفية أو المذهبية، والإثنية أو الجهوية والقبلية. تراجعت إلى ما دون الدولة الوطنية الجامعة. من ليبيا إلى اليمن وحتى العراق وسورية ولبنان وفلسطين… وهذا تأكيد على فشل الدول الكبرى أيضاً وسياساتها في إدارة شؤون العالم وتسوية أزماته.
لم يعد «11 أيلول» (سبتمبر) حكراً على الولايات المتحدة. يكاد يكون لكل دولة أيلولها، وآخرها فرنسا بعد لبنان وروسيا وقبلهما بعض دول الخليج. لم تمضِ ساعات على إعلان الرئيس باراك أوباما «احتواء داعش» في العراق ووقف تقدم التنظيم في سورية، حتى كان الإرهابيون يضربون في قلب أوروبا. منذ غزو أفغانستان ثم العراق إلى حرب التحالف الدولي وتدخل روسيا لقتال تنظيم «الدولة الإسلامية» والفصائل الجهادية الأخرى، تصاعد الإرهاب وانتشر. ويعرف محاربوه أن العمل العسكري ليس السلاح الوحيد للقضاء عليه. ثمة أسلحة كثيرة أشبعت درساً ومواعظ وخططاً وبرامج. لكن العقدة الكبرى تبقى في توالد الأزمات التي تشكل خزاناً لا ينضب لهذه الحركات المتطرفة. وقد وضع الرئيس الأميركي الإصبع على الجرح الذي كان يعرف علاجه منذ وصوله إلى البيت الأبيض. من يوم أطلاقه مبادرات وخطابات ووعوداً لم يفِ بشيء منها سوى الانكفاء وسحب القوات التي زجها سلفه في ميادين عدة. «بشرنا» بصريح العبارة بأن النزاعات الإقليمية ستستمر، وأن أمن الشرق الأوسط لن يصبح مثالياً في وقت قريب.
عشية لقاء فيينا حدد الرئيس أوباما خريطة طريق للحل. قال إن جزءاً من الأهداف للقضاء على «داعش» تجنيدُ «شركاء سنة أكثر فاعلية في العراق للانتقال إلى مرحلة الهجوم بدل الاكتفاء بالدفاع». إذاً هو يعرف أن أبرز أسباب المشكلة ليس في «دولة البغدادي» ومجرميه وثقافتهم الوحشية فقط، بل هي أيضاً نتاجُ سياسات مذهبية. وبعضٌ من ترجمة إحساس أهل السنّة الذين يبحث عنهم اليوم البيت الأبيض، بالإذلال والإقصاء واليأس والاجتثاث، منذ وقوع الغزو الأميركي لبلادهم العام 2003. وشعورهم بأن واشنطن وبغداد لم تفيا بوعودهما وتعهداتهما لـ «صحوات العشائر» التي هزمت «دولة الزرقاوي». وهو يدرك أن ليس هناك أفضل من العشائر لإلحاق الهزيمة بالتنظيم الإرهابي. لكن هذه تتردد لأنها تخشى تكرار التجربة. وهي تدرك تماماً مثلما يدرك خصومها أن فريقاً كبيراً من الإرهابيين هم ضحايا الاجتثاث. العقدة الكبرى أن القوى التي تولت السلطة في العراق فشلت في بناء نظام يساوي بين الجميع. وانخرطت طرفاً متقدماً في الصراع المذهبي المتصاعد في الإقليم. فيما القوى المواجهة لا تزال تأمل باستعادة ما كان قبل سقوط نظام صدام حسين. وقد فاقم تدخل موسكو، وإن محدوداً، في تعقيد المشهد السياسي. فالذين جاؤوا بالأميركيين لإطاحة نظام البعث هم أنفسهم ينادون موسكو للمجيء! وما ينطبق على سنّة العراق ينطبق على أهلهم في سورية. هذا ما عبّر عنه أيضاً الرئيس الأميركي الذي لا يجد حلاً في بلاد الشام إلا «عندما لا يعود الأسد عائقاً أمام السنّة»…و «عندما لا تعود المنطقة برمتها تخوض حرباً بالوكالة عن الصراع الشيعي – السنّي».
هذا هو لب الأزمات: الصراع المذهبي في المنطقة. ولولاه لما بدت الحلول عصيةً على الحل إلى حد الاستحالة. كان اللاعبون من الخارج ينتظرون عادة تعب المتخاصمين والمتحاربين ليبادروا إلى تقديم الحلول، أو فرضها أحياناً. لكن العقدة هنا أن هؤلاء لم يتعبوا لأن حلفاءهم في الإقليم وخارجه لم يتعبوا ولم يريحوهم. الجماعات الأهلية وحدها ضاقت ذرعاً بحروبهم واكتوت وتكتوي بنارهم، لأنها وحدها تدفع الثمن الباهظ قتلاً وتهجيراً. لم تعد الدولة ومؤسساتها مرجعيات تقودها إلى التسوية. حملة السلاح ومن يمدهم بالدعم المرجعية الوحيدة… بالقوة والتشبيح والتخويف من الآخر. لذلك تبدو مهمة حيدر العبادي وإصلاحاته في العراق شبه مستحيلة، في ضوء الصراع الداخلي على السلطة، والصراع المفتوح بين مرجعيتي النجف وقم. خصومه، وعلى رأسهم نوري المالكي وبعض «حشده الشعبي» ومن يقف خلفهما في إيران، ألغوا الحياة السياسية في بغداد. وأوقفوا الحوار مع الشركاء الآخرين من السنّة والكرد. ولو قدر لهم لطردوا ربما هؤلاء من البلاد! ناهيك عن حماستهم لاستدعاء روسيا التي تبدي رغبة أكيدة في استجابة النداء. حتى بات العراقيون يخشون مزيداً من التقسيم لخريطة بلادهم.
اللاعبون الكبار في الإقليم لا يستعجلون التسويات. ينتظر كل طرف منهم أن ينهي مهمته في الحسم العسكري أو ما يقاربه قبل الذهاب إلى تفاهم أو مصالحة أو تسوية. وهذا يستغرق وقتاً طويلاً ويضيف مزيداً من المعوقات أمام الحلول. لذلك لم تثمر الحرب على «داعش» سريعاً. تسوية الأزمات أولى الخطوات على طريق القضاء على الإرهاب. وإذا كانت الحرب في سورية أولى المهمات في فيينا، فإن اللقاءات الجامعة في هذه المدينة مهما توسعت لن تؤدي المهمة الملحة والمزدوجة، توفير الحل والقضاء على الإرهاب، ما دام الخلاف على الجوهر عميقاً. الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كيري لا يريان سلاماً ولا هزيمة للتنظيم الإرهابي «طالما بقي الأسد في السلطة». والرئيس فلاديمير بوتين يرى إلى الأسد «رئيساً منتخباً وليس لدينا الحق في مناقشة مسألة تنحيه». والرئيس حسن روحاني الذي تفتح روما وباريس أبوابهما له هذا الأسبوع لا يعتقد بإمكان محاربة الإرهاب من دون «حكومة شرعية في دمشق، ودولة قوية»! ولا تختلف مواقف القوى الإقليمية الأخرى عن هذين الموقفين بين متمسك بوجوب رحيل الرئيس السوري ومتشبث ببقائه ولو إلى حين.
بينما يجتهد العالم عبثاً في البحث عن حل في سورية يزداد تفكك الجماعات الأهلية ومعها مؤسسات الدولة. تماماً كما حصل في ليبيا واليمن والعراق حيث نجحت نظم الاستبداد في تفكيك هياكل الدولة. وأقامت مؤسسات بديلة من كل السلطات عمادها العائلة وأجهزة أمنية متعددة الوظائف القمعية وجمهرة من المستفيدين الفاسدين. وهذا ما أدى إلى صعود الهويات المذهبية والعرقية والجهوية والقبلية مع سقوط أول حجر من جدار الخوف وارتفاع أصوات المطالبين بالحرية والعدالة والعيش الكريم. لذا يصعب تخيل إعادة اللحمة بين مكونات هذه الدول. فماذا يملك العبادي وانصاره من أسباب القوة لإعادة تشـــكيل نظام مقبول يمتاز بشيء من المساواة والعدالة بين كل العراقيين؟ ربما الأمل معقود على قوة المرجعية في النجف وتأثيرها، وعلى القوى الشيعية المتضررة من حلفاء إيران. ولكن أين مرجعية أهل الساحل السوري لملاقاة الشركاء الآخرين في الوطن عند منتصف الطريق؟ بل أين مرجعية هؤلاء الآخرين أيضاً؟ «داعش» و «النصرة» وعشرات الفصائل المسلحة المرتبطة بهذا الطرف الإقليمي وذاك؟ والحال ليست أفضل في ليبيا حيث تدور حرب عربية – عربية تنخرط فيها قوى أخرى في المحيط وأبعد منه حتى تركيا. وكذا اليمن حيث يجهد أمراء الحرب على استمرارها لتــعزيز «اقتصاداتهم» وتمكين سطوتهم على الناس.
الجرائم التي ارتكبها الارهاب في باريس، بعد جريمتي الطائرة الروسية والضاحية الجنوبية لبيروت، وبعد التفجيرات المتنقلة في دول الخليج ومصر وغيرها لم تعد تسمح لـ «أهل فيينا» بترف الخلاف على الأولويات، أو على مستقبل فرد واحد أحد. لا يمكن حشد جهود جميع المجتمعين مهما ارتفع عددهم في تحالف واحد لهزيمة «داعش» وغيرها ما لم يسلموا بوجوب التوافق على حلول أو فرضها بالقوة. الإرهاب يتسلل من خلافاتهم وصفوفهم المتباعدة. والإرهاب ينتشر في ديارهم جميعاً. وما دام أن لليبيا مبعوثها الدولي ولليمن مبعوثه ولسورية مبعوثها ولفلسطين مبعوثيها ولجانها، فلماذا لا يحولون فيينا «يالطا جديدة» أو مؤتمر سلام شامل يعطي لكل دولة في الإقليم حقها بلا زيادة أو نقصان، ولكل مجتمعات الشرق الأوسط «من المحيط إلى الخليج» مروراً بفلسطين حقوقها، أبسط حقوقها في الحرية والمساواة والعدالة والحياة الكريمة؟ هل تطول معاناة أهل المنطقة حتى يروا قواها الفاعلة ودولها المؤثرة وقد قطعت شرايين الحياة عن المتحاربين حتى يتعبوا ويرتاحوا ويريحوا… هل فات الأوان ولم يعد بد من تغيير الخرائط؟