من باب العدالة، لا يمكن الكلام على انجراف البيئة السنّية اللبنانية إلى التطرُّف والتشدُّد. ولكنّ الحقيقة تقتضي الاعتراف بأنّ شيئاً ما يتغيَّر. فالسُنّة اللبنانيون تبدّلت طريقة تفاعلهم مع الأحداث والوقائع بتأثير عاملين: النموّ الهائل لحجم اللاجئين السوريين، وبروز نجم «داعش».
ليست «داعش» مهيّأة للسيطرة على منطقة لبنانية وفق الطريقتين السورية والعراقية. فالخصائص الجيوسياسية هنا مختلفة.
والبيئة السنّية اللبنانية بعيدة عن البيئتين السورية والعراقية في طريقة التفاعل مع الحركات المتطرفة والعنفية. ولذلك، يصعب على السنّة اللبنانيين الموصوفين باعتدالهم وانفتاحهم إجمالاً، أن ينجرفوا بـ»داعش» والجماعات المتطرّفة الأخرى أو يتعاطفوا معها فكرياً.
لكنّ التعاطف قد يصبح اضطرارياً إذا بقيَ منسوب التحدّي مرتفعاً بين خيارَين لا ثالث لهما: ولاية الفقيه أو الخلافة؟ فصحيح أنّ هناك اختلافاً أساسياً يُميّز سُنّة لبنان عن سُنّة سوريا والعراق من حيث الاستعداد للذهاب نحو الخيارات المتطرّفة، لكن هناك نقاط تشابه أيضاً.
فالقاسم المشترَك بين البيئات الثلاث هو أنّها جميعاً واقعة تحت ضغط السؤال الآتي: هل تختار الرضوخَ لإيران وحلفائها أم تذهب في اتّجاه الفريق السنّي الوحيد القادر على المواجهة، أي «داعش» والقوى الرديفة الرافعة شعارات التطرّف والتشدّد؟
وليس سِرّاً أنّ سُنّة لبنان مالوا إجمالاً إلى مراعاة «حزب الله» بسبب امتلاكه السلاح والتغطية الإقليمية، بدلاً من مواجهته والمخاطرة بوقوع فتنة مذهبية لا أحد يعرف ما يمكن أن تودي إليه.
وفي لبنان، كما سوريا والعراق، حلفاء إيران هم القابضون على السلطة. ولذلك، ومِن سوء الأقدار، سيعني أيّ لجوء سنّي إلى الدولة ومؤسساتها، في أيّ من البلدان الثلاثة، رضوخاً لهؤلاء، ولو أنّ إيران حاولت تعويم دورٍ لسنّة الاعتدال في لبنان (تيار المستقبل) والعراق، لعلّها تكسر حدّة المواجهة المدمّرة وإنجذاب السُنّة إلى ردّات فعل متطرّفة مذهبياً، وتعويم الدعوة إلى «الخلافة الإسلامية» ردّاً على «ولاية الفقيه».
وتراهن إيران على أن تجذبَ إليها سُنّة الاعتدال فينضمّوا إلى المعسكر المقاتل ضد سُنّة التطرف، أي شَقّ البيئة السُنّية لتصبح موزّعة بين معسكرَين متقاتلين، أحدهما خاضع لقيادتها.
ومن خلال النماذج السابقة، وخصوصاً منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومحطات أخرى كموقعة 7 أيار ومعارك طرابلس وعبرا والطريق الجديدة وسواها، بدا أنّ الشارع السنّي لم يرجّح خيارَ المواجهة بل المهادنة. لكنّ معركة عرسال بدأت تُغيّر المشهد.
ولم يكن أحد يرغب في وصول البيئة السُنّية في لبنان إلى ملامسة الواقع الذي تعيشه البيئتان السورية والعراقية. لا السُنّة اللبنانيون أنفسهم ولا الشيعة. لكنّ الأمور تتّجه إلى مزيد من التعقيد والخروج عن سيطرة «الحُكماء».
وتختلف البيئة السُنّية اللبنانية عن البيئتين الأخريين بأنّها لم تعُد تضمّ السُنّة اللبنانيين وحدهم. فقد بات في لبنان عدد من السنّة السوريين يوازي عدد السنّة اللبنانيين. ويضاف السُنّة الفلسطينيون الذين اضطلعوا بدور أساسي في الحياة السياسية والحرب الأهلية خلال المرحلة السابقة، وتعاطفَ معهم سُنّة لبنان.
ومشهد الشارع السنّي، السوري – اللبناني، في عرسال وطرابلس، أخيراً، وبالتعاطف المباشر وغير المباشر مع «داعش» وأخواتها، يُعلن ولادة المرحلة السنّية الجديدة في لبنان، والمرحلة الجديدة من النزاع المذهبي في لبنان والإقليم.
وثمّة مَن يقول إنّ السنّة اللبنانيين، أو بعضهم على الأقلّ، ربّما يكونون مقبلين على خيارات لا يريدونها ولم يكونوا في صددِها في أيّ يوم مضى. وهذه الخيارات قد تفتح الباب على مصراعيه لانفلات النزاع المذهبي الذي قد لا يوقفه الحُكماء هنا وهناك.
ولولا الحَدّ الأدنى من الإرادة الدولية – الإقليمية بمنعِ انفجار لبنان، كإطار كياني واحد، لانفجرَت الحرب المذهبية أمس قبل اليوم.