العراق… وما أدراك بخفاياه وخباياه التي كانت وما زالت مستمرة، فما يجري على ساحته في أيامه العصيبة الراهنة التي التهبت فجأة وأشعلت محافظاته ومدنه وقراه بذلك اللهب المستجد والذي لم يسبق له مثيل في نشوئه وتطوره وهويته وحصيلته وفي أوضاعه المتقلبة من سيئ إلى أسوأ.
الشرارة الأولى، بدأت في مدينة البصرة، إحدى أكبر المدن العراقية، القائمة على أرض تسبح في بحيرة من البترول، وقد عرفت في العهود السابقة بأنها مدينة مرتاحة اقتصاديا ومعيشيا، كونها مقرّا بتروليا تحوم من حوله الشركات المنبثقة عن قطاع النفط، فضلا عن تلك المنضوية في إطار التجارة العامة والرخاء المعيشي الذي كان يسود معظم قطاعاتها.
الآن، البصرة، زهرة المدائن في جنوب العراق، بأغلبيتها السكانية الشيعية، انقلبت أوضاعها رأسا على عقب، غاب عنها الرخاء والاستقرار والعيش الطبيعي، وغابت عنها الكهرباء والمياه النظيفة لتحل مكانها مياه تطغى عليها ملوحة حادة، وضاقت سبل العيش وشحّت فيها الوظائف وسبل العمل والعيش الكريم، فانفجرت ألغامها في حقولها جميعا، وانطلق أهلها يتظاهرون ويحتجون على أوضاعهم المتدهورة، هاتفين بسقوط الحكم والحكومة والمسؤولين، ومطلقين صيحات الإنتقاد والشتم بحق ولاتهم وحكامهم وإدارييهم، وأكثر ما تناولوه وتناوله معهم مواطنوهم في أرجاء واسعة من العراق عموما، وفي مجمل مدن وقرى الجنوب العراقي خصوصا كان موضوع الفساد المتفاقم، وكانت الشتائم التي تعبق بها صيحات المتظاهرين تطلق على هؤلاء صفة اللصوص و«الحرامية» وتتهمهم بالمحاصصة الحزبية والطائفية والميليشياوية والفساد المتغلغل إلى أعماق القادة والزعماء، بل تجاوزت الأحداث أسبابها ومعالمها الداخلية لتصل إلى إيران والنظام الإيراني بكافة مراتبه القيادية، وآخر طبعة للشعارات التي صاح بها البصراويون وأهل الجنوب العراقي: إيران برّه برّه، العراق ستبقى حرّة.
هل كان هذا الانفجار الشعبي نوعا من طفحان الكيل لدى هذا الشعب الذي أصابه الإحباط الكامل نتيجة غياب أي حل يزيل عنه معاناة كاسحة مستمرة في بلاده منذ قرابة الخمسة عشر عاما، وهل تطور الأحداث والمظاهرات السلمية عامة، إلى اشتباكات مسلحة مع قوى الأمن وإلى اقتحامات لمقر القادة والمحافظين والمطارات وقطع الأوتوسترادات والطرق العامة، ومحاصرة ومحاولة اقتحام منابع النفط، تشكل وفقا لاتهامات الحكومة العراقية، تدخلا واختراقا لسلمية التظاهرات من عناصر مشبوهة، وهل توجيه الاتهامات تأكيدا على ذلك إلى الميليشيات الشيعية المرتبطة مباشرة بإيران ومخططاتها على مجمل المدى العراقي، كما على امتدادات الهلال الإيراني الممتد من طهران وصولا إلى مياه البحر المتوسط، وهل قطع الكهرباء والمياه الحلوة التي تمد بها إيران بعض مدن وقرى العراق ومنها البصرة والنجف، يدخل في إطار زيادة الأوضاع تأزما وانفجارا، ولطالما تقاضت إيران ثمنها أضعافا مضاعفة خاصة في المرحلة التي سبقت حكم الرئيس العبادي والتي امتدت «أفضالها» إلى الثروة البترولية وأموال الدولة والمؤسسات العامة إلى اقصى حدود الاستيلاء والنهب وتهريب جزء من الثروة العراقية إلى خزائن الحرس الثوري، وجزئها الآخر إلى جيوب بعض المسؤولين وحساباتهم في الداخل والخارج، من دون أن نغفل توزيع ما يجودون به على المحظوظين من أنصارهم ومحازبيهم، ولتجسيد هذه الثروة التي أنفقت في تلك الفترة السوداء برقم محدد تشير إلى أنها ناهزت المايتي مليار دولار أميركي «أنفقت» على احتياجات مدينة البصرة وحدها!
واقع الأمر أن الشعب العراقي، خاصة في إطاراته وفئاته الشيعية، قد طفح به الكيل، وكان ظهور الزعيم الديني مقتدى الصدر وتياره، أهم بوادر اليقظة العراقية الشيعية إلى واقع حالها وواقع بلادها المأساوي، وجاءت الإنتخابات العراقية بكل ما ذكر بصددها عن عمليات تحوير وتزوير، لتدفع بهذا الشعب المنكوب إلى اليأس من قادته وزعمائه ووجهائه العشائريين والمتمذهبين، بل وإلى اليأس من انتخابات تمت وكان يأمل أن تكون «ديمقراطيتها» وسيلة مشروعة ومطلوبة لتغيير أحواله ورفع الظلامة عن حياته، ولكنها جاءت على نحو مخالف تماما، ولم ينجح القادة المنتخبون حتى الآن في تشكيل حكومة جديدة بأشخاصها وتوجهاتها وشعاراتها ويتمثل بها أي بصيص أمل للتغيير، وسط اتهامات التزوير والتحوير ممن تم انتخابهم، فكان ما كان وما هو مستمر إلى مدى غير منظور.
لم نأت إلى إلقاء الضوء على الوضع العراقي صدفةً وملاحقةً منا للخبر وللحدث، بل قصدنا من هذا التناول مقارنة موضوعية بين الوضعين العراقي واللبناني.
ففي العراق، سبب الأحداث الرئيسي يتمثل في نفس المآخذ والأسباب والجرائم المرتكبة في لبنان بحق البلاد والعباد وتعدادها المتطابق يتمثل بالخلاصات التالية:
المحاصصة – الفساد – غياب الكهرباء – المياه المالحة (لدينا الملوثة) – البطالة – الطرقات المتآكلة والمقطوعة في أغلب الأحيان نتيجة للمطالب الشعبية لدى أكثر من فئة – زعماء وأزلامهم وسماسرتهم يملأون الأماكن الدسمة بالمال والثروات والمقدرات – سيطرة ميليشياوية على الدولة بقليلها والكثير، مع قرار من الرئيس العبادي سبق من خلاله أن ضم كتائب بعض الميليشيات المنتمية لإيران إلى الجيش الوطني – تحكم ميليشياوي بالواقع السيئ القائم وبآفاق المستقبل المنشود.
نضيف إليها في بلادنا، طائفية ومذهبية مستعرة ومتأصلة «يبدو أن الإخوة العراقيين قد تجاوزوا الكثير من أوجهها» وأن بعضا من الزعماء والقادة قادرون مع ازلامهم ومساعديهم على التحكم الصارم بالمسالك الفئوية واستغلالها واستثمارها، وسلوك منظم للإمساك بمقاليد البلاد الأمنية والسياسية.
وهذه حكومتنا قيد التأليف تخرج من عقبة ومن شروط تعجيزية إلى عقبات وشروط أعتى وأشد، في الوقت الذي يطالب فيه كثير من الزعماء والقادة، بوضع حد للفساد القائم ولعمليات النهب المنظم ومحاصصات بعض أركان الحكم المرتبطة بهم وبأزلامهم… تماما كما في العراق الباحث حتى الآن عن استكمال انتخاباته وتصحيح التزوير الحاصل في كثير من أركانها، وتأليف حكومة فشلت حتى الآن في تأليف وتوليف أكثرية نيابية تمكنها من تركيز أوضاع الحكومة المقبلة والحكم قيد الإعداد.
يشير الكثيرون في العراق وخارجه إلى خطورة أوضاعه القائمة على كل المستويات والتوقعات الحالية والمستقبلية ومثلهم كثيرون أيضا يطلقون في لبنان نفس التنبيه والتحذير، وقانا الله من آثار المشابهات بين أوضاع البلدين، ومن أية تطورات تؤدي إلى مسالك الوقائع القائمة والمتفاقمة في العراق.
إلى متى؟… إلى أين؟ رغم كل التفاؤل الذي يبثه بعض المسؤولين لدينا، هناك تخوف، هناك تحسب، يحاول اللبنانيون التشبث بحبال التفاؤل، ألا ليتها تتحقق، ألا ليت الوطن الذي ضمنا إلى رحابه، يعود إلى ما أمكن من حياته الطبيعية، بعيدا عن الأخطار والمزالق، وعن أية توقعات قاتمة اللون والتلمّس والتحقق.