لا تستقيم التحليلات والتقديرات من دون الرجوع الى الماضي، خصوصاً إذ كان الحاضر ــــ كما المستقبل ــــ مؤسّساً عليه وعلى صيرورته. المواجهة المستمرة بين إسرائيل وحزب الله، وإن كانت غير معلنة بمعظمها، مستعرة الى حدّ الانفجار. فتيل الحرب موجود، وكذلك عود الثقاب.
لكن عامل الردع يمنع ويصدّ. من جهة إسرائيل، تمتنع ــــ نتيجة للردع ــــ عن شنّ اعتداءات على الاراضي اللبنانية، رغم إصرارها على إطلاق تهديدات بين حين وآخر حول تنامي ترسانة المقاومة. ومن جهة حزب الله، يواصل تعاظمه لردع إسرائيل عن استهداف لبنان، من دون اكتراث للتهديدات التي يدرك أنها لن تخرج الى حيّز التنفيذ. أما الترسانة الصاروخية، التي تعدّ مصدر تهديد أول للعدو وتشكّل حافزاً له لشنّ اعتداءاته، فهي نفسها ما يردعه عن تنفيذ ما يهدّد به.
هل تنشب الحرب؟ سؤال عايشه اللبنانيون سنوات، ولا يزال قائماً. ما إن يخفت بريقه حتى يعود الاهتمام به من جديد. ولا جدال في أن أحد أهم عوامل شنّ اعتداء إسرائيلي على لبنان، هو منع تزوّد حزب الله بسلاح «كاسر للتوازن». وهي العبارة التي «يمطّها» العدو كلما تزوّد الحزب بسلاح نوعي، من سلاح يصل الى حيفا وما بعدها، الى سلاح مدمر، الى سلاح دقيق، فأكثر دقة، وصولاً الى الدفاع الجوي والبحري…
قبل ست سنوات، في 14 أيار 2010، نشرت صحيفة «إسرائيل اليوم» تقريراً لمعلق الشؤون العسكرية يؤاف ليمور تحت عنوان «المعضلة على الحدود الشمالية». يومها، تحدّث التقرير عن التهديد الهائل المتمثل في 50 ألف صاروخ في حوزة حزب الله، وكيف أن إسرائيل لم تحرّك ساكناً ــــ بسبب الردع ــــ لمنع تنامي هذه الترسانة. ما بين الأمس واليوم فارق كبير، وــــ للمفارقة ـــــ تشابه كبير. فرق في القدرة الموجودة في لبنان (130 ألف صاروخ بحسب التقديرات الاسرائيلية) التي تدفع إسرائيل الى عدم الفعل والاكتفاء بالحماسة اللفظية، فيما الشبه كبير لناحية الارتداع.
أهمية هذا المقال أنه جاء بعد أسابيع من صدور تقارير في الاعلام الغربي عن وصول صاروخ «فاتح 110» الكاسر للتوازن الى لبنان. في حينه، منعت الرقابة العسكرية الاعلاميين من نشر أي خبر حول نجاح حزب الله في التزود بهذا النوع من السلاح، قبل أن تسمح، بعد أسابيع، بنشر الخبر. وهذه واقعة، في حدّ ذاتها، تستحق التأمل.
كتب يؤاف ليمور: «… إذا شعر حزب الله أن إسرائيل مرتدعة، فمن الممكن أن يحاول إرسال رسالة مؤلمة. رغم أن المواجهة في الشمال غير متوقعة، لكننا نعيش في منطقة مليئة بالمفاجآت. نعم، لا مصلحة في التسبب بتصعيد الوضع شمالاً، وسيناريو تحقق نبوءة الحرب في الصيف غير موجود لدى الجانبين، ولا إرادة للتدهور الى حرب لبنان ثالثة. السبب المركزي لذلك هو الردع. ردعنا تجاههم، وللأسف الشديد، ردعهم تجاهنا أيضاً. يأتي ذلك مع وجود أكثر من 50 ألف صاروخ لدى حزب الله، من بينها مئات الصواريخ القادرة على الوصول الى تل أبيب وجنوبها. واضح للجميع كيف ستكون المواجهة: عنيفة جداً في كلا الجانبين. لذلك، هناك في لبنان وهنا في إسرائيل، يمتنعون عن الأفعال ويكتفون حتى الآن بالكلام.
«… مسألة وقف تدفق السلاح الى لبنان موجودة على جدول الاعمال بشكل ثابت منذ صدور القرار 1701 عن مجلس الامن عام 2006، والذي نص على منع تزود هذا التنظيم بالسلاح. إلا أن هذا السلاح، وتحديداً الصواريخ، ومباشرة بعد انتهاء القتال، بدأ ينقل بكميات ضخمة الى الاراضي اللبنانية. إسرائيل وقفت دائماً أمام مشكلة «ما العمل». كان هناك في الجيش الاسرائيلي من أوصى بأن نهاجم مباشرة القوافل الاولى من السلاح لنبيّن أن لا نية لدينا للتعايش مع التسلح الجديد لحزب الله. لكن القيادة السياسية، والى حدّ كبير قيادة الاركان العامة للجيش، حاولت الابتعاد عن إلقاء المسؤولية عليها في التدهور نحو حرب لبنان ثالثة.
«… ما لم نهاجمه في الايام الاولى، لم يعد هناك سبب لمهاجمته لاحقاً. ليس هناك فرق بين 30 ألف صاروخ، و45 ألفاً، ولا فرق أيضاً بين الشاحنة الألف التي عبرت من سوريا الى لبنان، وبين الشاحنة الألف وخمسمئة. مع ذلك لم يغادر هذا الموضوع جدول الاعمال اليومي في إسرائيل. وبعد امتناع ومنع عن النشر، سمح (الرقيب العسكري) بالتحدث عن معلومات تفيد بأن حزب الله قد تزوّد أيضاً بصواريخ ام 600 (فاتح 110)، الدقيقة والقاتلة والأخطر من كل الاسلحة الموجودة في مخازنه».
واضح لإسرائيل أن هجوماً على هذه الصواريخ وعلى مخازنها سيؤدي بالضرورة الى ردّ قد يجر الى حرب. يوجد تشابه في منطق عدم الفعل وضبط النفس لدى إسرائيل، اليوم كما الأمس. المنطق الكامن وراء قرار عدم الفعل ضد حزب الله، يشبه منطق عدم الفعل بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان عام 2000، وحتى عشية حرب تموز 2006.