عالم اليوم يعكسه إلى حد كبير القرار الدولي الأخير الخاص بسوريا. ما كان يمكن لهذا القرار أن يصدر إلا بتعطيل آليات ما يقتضيه من هدنة شهر إلى حد كبير، وإلا كان قوبل بفيتو روسي جديد. وما كان يمكن لهذا القرار بالتحديد أن لا يصدر، لأن هناك استشعاراً متزايداً بأن الاستفراد الروسي بسوريا، والاميركي بالفلسطينيين، قد أخذ يخرج عن «معقول الامبريالية»، ويهدّد مصير الواجهة المؤسساتية للنظام العالمي، تلك التي تشكّلت معالمها في الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. ما لم يحصل في عز التواجه بين الجبارين، وقت الحرب الباردة، ولا في عز تجبّر أحدهما دون الآخر، في العقد التالي لانهيار الاتحاد السوفياتي، فسمح باستمرارية هذا النظام العالمي ولو بتقطّع واعتلال وتصدّعات عديدة وشقاق متزايد بين الأسس المعيارية واشكال الاحتكام إليها واعتمادها، صار في السنوات الاخيرة وارداً أكثر من اي وقت.
فحيال الكارثة السورية، القانون الدولي الجنائي معطّل، مثلما هي في الوقت نفسه، المساعي الدولية لحلّ الأزمة سياسياً معطّلة، أو تسويفية. أكثر القرارات الدولية الواجبة تجاه المسألة السورية لا تصدر، وما يصدر منها يخرج معطوباً بالنص، قبل اي كلام عن التنفيذ. والمسألة التي اتخذت بعداً عالمياً، كوكبياً، بامتياز، كأزمة تدفّق لاجئين من جهة، ومسائل سلاح دمار شامل، وجرائم ضد الإنسانية، وإرهاب دولة، ومجموعات إرهابية متناحرة، وتدمير لركن اساسي من اركان حضارة العالم القديم، من نواحٍ اخرى، لم تجد منذ سبع سنوات اي لحظة يمكن القول ابتداء منها ان الحرب بدأت تتراجع، أو أن الحل السياسي بدأ يسلك مجراه، أو أن القانون الدولي الجنائي أخذ يطلّ من النافذة.. في كل هذه السياقات، يواجَه الواقع السوري بعدمية كونية بامتياز.. عدمية تأخذ على هذا الواقع استسلامه، بدوره، للعدم.
حتى التدخل الروسي النوعي، الذي بدّل مسار الحرب، من نظام احتضار دموي آيل للسقوط في مقابل مجموعات مسلّحة من كل حدب وصوب، الى نظام احتضار دموي مزمن في مقابل مجموعات مسلّحة تتراجع في اماكن كثيرة، ولا يعود بإمكانها استهداف شوكة النظام، انما لا تزال تسيطر على مساحة شاسعة من البلاد، حتى هذا التدخّل لم يتمكن من أن يتحوّل، خارج إطار تمكين النظام، الى معادلة تحفيز، لا لتسوية سياسية، ولو كانت غير متوازنة، ولعودة لاجئين، ولو كانت بالحد الادنى، كما أن إوار الحرب الاهلية بحد ذاته لم يخفت، ومستوى الاجرام فيها لم يتراجع.
واذا كان «داعش» قد شبك الواقعين السوري والعراقي في السنوات الماضي، وكذلك المسألة الكردية شبكتهما، والجيئة والذهاب بين ميليشيات موالية لايران، فإن مرحلة انحسار «داعش» جاءت لتعني مجدداً افتراق الحال بين البلدين..عراق يميل الى تجاوز حقبات الحرب الاهلية بشكل أو بآخر، ولو على مسافة بعيدة من مقومات الانتظام التعاقدي السليم بين مكوناته.. وسوريا ترسف في أغلال هذه الحرب الاهلية وقد تحوّلت أكثر فأكثر الى شرط لاستدامة هذا النظام، كنظام للحرب الاهلية بالدرجة الاولى.
نجح لبنان طيلة السنوات الماضية، وفي جزء منه بسبب تدفق مئات آلاف اللاجئين من سوريا اليه، في تفادي الوصول بالازمة الاهلية الداخلية الى لحظة من شأنها نقل الحريق الاقليمي، الذي كان عراقياً ـ سورياً الى حد كبير، اليه.. واليوم، بعد ان افترق مصير العراق (الخروج من الحرب شيئاً فشيئاً) وسوريا (نظام الحرب الاهلية المستمرة تحت رئاسة بشار الاسد، بتواطؤ كوكب الارض ككل)، فإن تحدياً مزيداً يفرض نفسه على اللبنانيين.. تحدٍّ يتجاوز مشكلة تدخّل قسم منهم، «حزب الله»، في سوريا، أو انقسامهم، في ما بينهم، بين النظام والثورة، في سوريا.. انه التحدي البنيوي المتمثل بكيفية انتهاج سياسة واعية للتعايش مع وضع قائم يدوم، بعبثيته، هكذا، في سوريا، لسنوات، بما يجعل الحديث عن العودة الآمنة للاجئين مسألة لا أرضية معبّدة لها، وبما يجعل إعادة التنبيه حول سياسة النظام السوري تجاه لبنان واللبنانيين مسألة راهنة، وليست طياً من طيات المشكلة داخل لبنان، بين «حزب الله» وأنصاره والمتناقضين مع خطه وسياسته. حماية لبنان تعني ايضاً اليوم وجوب استشراف نظرة لمدى أطول من كل ما كان متوقعاً، حول الحرب فالكارثة، في سوريا.