غداً لحظة الحقيقة، يختارها الشعب اللبناني كلّه، تنكشف الأقنعة، تتساقط المساحيق، ولا يبقى غير الصّوت الذي ينزل في صناديق الاقتراع. لكن أيّ صوت؟ وهل هناك صوت واحد بلون واحد، بقسمَاتٍ واحدة، ينتخب وكأنّه لا ينتخب. يصوّت وكأنّه لا يصوِّت: فصندوقه يحال على الخارج، على الوصايات وأصحاب المشاريع الوافدة، التي لا يتردّد سعيها في المسّ، عبر الاستحقاق النيابي، بالكيان اللبناني، وبالهويات المتعددة، بما هو طغياني، أو استماري. إنه تصويت حزب. لكن لمن؟ للّاأحد هنا، بل لأحد في أدغال إيران، يصوّت لمقاومة لم يتبقَّ منها شيء مقاوم، سوى ما تمارسه على شعبها، وعلى الشعب السنّي العربي في كلّ مكان من سوريا إلى اليمن إلى العراق، فالسعودية، فالكويت، وصولاً إلى المغرب. كأنّما يصوّت لخراب هذه الشعوب، وتدمير بُناها، وتشويه انتماءاتها العربيّة.
إنّه الصوت الواحد لملايين البصمَات العربية، باختلافاتها، الصوت الواحد التوتاليتاري الذي ينفي أشكال الديموقراطية والتغييرية والليبرالية ليفرض على اللبنانيين إيديولوجيّات مُستعارة، ومشوّهة. يصوّت بالديموقراطية ليدمّر تعدّديتها، يصّوت بحربة تلغي الحرّية، يصوّت في لبنان لاستيعاب لبنان، يصوّت في الجنوب ليسلّمه أكثر فأكثر لإيران، يصوّت لبيروت ليُهديها إلى دمشق وطهران.
إنّه الصوت الواحد، الغضوب (دائماً)، العبوس، المتجبّر، المتحجّر، زارع إيديولوجيا التيئيس في بلاده ومُحيي «الأمل عند ولاية الفقيه». عليكم أن تكفّروا باعتدالكم، كي تتخلّوا عن وطنكم، لكي تُستباح حدودكم، نصوّت لكي نكرّس وجود «ولاية الفقيه»، نصوّت وفي آفاقنا انقلاب على كلّ هذه الدولة بجيشها، وقواها الأمنية. نصوّت للبرلمان لكي نَنفيه. للحكومة لكي نعطّلها. للمؤسسات القائمة لنخرّبها. «نصوّت في لبنان لكي لا يكون هناك لبنان. فلبنان «خرافة»، نحن صنعنا «حقائقها» التاريخية. لأنّه بلا تاريخ. فعندما يبدأ التاريخ، وتستقيم الجغرافيات الديموغرافية، وترفع مذهبية الحزب الواحد بيارقها:
إنّه الصوت الواحد، الذي يصوّت في الجمهورية لـ«يفكّكها»، ويصرخ في الهواء ليحجبه عن الناس».
«حزب الله»، وفلول بشّار الأسد، تريد أن يصبح لبنان على شاكلتهم نظام استفتاءات دكتاتورية – دموية واستفتاءات الـ99 بالمئة. فالشعب موحّد بالخوف، والسلاح، والقتل، والمجازر، والتهجير، والغزوات، لكي يكون على صورة دكتاتوريّيه الكبار أو الصغار، والمرتزقة والملحقين.
أعداد افتراضية
وكم مرّة صرّح السيد حسن نصرالله “أنّه لا يُبالي بمن يرفض المقاومة”، فهم أعداد افتراضية، والقرار الأخير بيده، شاء مَنْ شاءْ أو قبَلَ مَنْ قبِل. سلطة فوق الجمهورية كلّها. ومع هذا يتهافتون على صناديق الاقتراع. فأيّ تناقض لا يضاهى. وأي وقاحة نادرة؟
و«حزب الله» برغم كل جبخانته العسكرية، وأمواله، يجد، في هذه الانتخابت (وقبلها)، أنَّ هناك عقبات. بل مقاومة لمشروعه المذهبي، ممثّلة أولاً بأكثرية الشعب اللبناني، ثمّ وخصوصاً بتيّار «المستقبل»، حامل لواء السيادة والتعدّدية والعروبة، والحرّية، والإنماء، وخصوصاً قائده الرئيس سعد الحريري. كأنّه السدّ الأخير الذي يصدّ مشروعه التّبَعي. وعلى هذا الأساس، لا بدّ من تدمير «النقيض»، و«المختلَف»، رمز «لبنان أولاً»، و«العروبة أولاً» والانفتاح على الحضارات أوّلاً.
والمتابع للحملات الانتخابية عند حزب إيران وفلول الأسد يكتشف المفارقات الكبيرة.
فخطاب الحزب «عنيف»، لا يتورّع مرشّحوه وكتبته وصغار الصحافيين، عن استخدام لغة التخوين، وشهْرِ الأصابع بالوعيد، وكأنّ المعركة الانتخابية يجب أن تنتمي إلى حفلات المبارزة بالسيوف وقطع الأيدي، والرؤوس. خطاب الحزب الذي يُفترض أن ينسجم على الأقل بإيمان بعضهم، وصلاحهم، وتقواهم، ها هو يظهر الوجه الجحيمي، وجه «نهاية العالم»، وجه الكراهية، والإلغاء، والأحادية: عبوس، وغضب مُزبد، وصراخ، واتهامات، وتلفيقات، وأخبار كاذبة، كأنما صرنا نعيش فصلاً في زمن «ما بعد الحقيقة». وهذا طبيعي من حزب هو أصلاً من تكوين «ما بعد الحقيقة» لأنّه، برغم كلّ شيء يبقى حزباً «مفتَرضاً» «شبحاً واهماً»، كابوساً أسود؟ حزب ما بعد الحقيقة يمارس لغة ما بعد الحقيقة، بطلاقة من اعتنقها بطباعه. فالكذب الذي يشيعه كأنّنا تعوّدناه عنده لأنّه صار غريزيّاً، بل طريقة وجود، مقابل هذه الخلائق، التي تبدو أحياناً وكأنّها آتية من الآخرة.
الرئيس سعد الحريري
في المقابل هناك النقيض، خطاب الرئيس سعد الحريري. خطاب الاعتدال، خطاب الدولة، خطاب الجمهورية، خطاب الناس. وها هو، يترجّل من موقعه، لينخرط في الجمهور، وفي المؤيّدين، بتواضع، وحميمية، وقُرب، وصراحة، وتفانٍ، طالع من تُراث الشهادة والإنماء والإعمار والعروبة والديموقراطية. صوت برلماني بنكهة شعبية، صوت شعبي بنكهة رجل الدولة، صوت رجل الدولة بنكهة الصدى المتفجر من القلوب، والعقول. لم يبقَ وراء منصّات الشاشات الفوقية، يخاطب جمهوراً «جاهزاً»، جُعل بعضه ومن يُتمه، غارقاً في «حقائق» مستلّة من إرث الإيديولوجيات الشمولية البائدة.
جمهور يُحِسّ بحرارة زعيمه. بأنفاسه. بنبراته. بصدقه. بمدنيّته. بلا عنفه. الجمهور المدني يتماهى بزعيمه المدني. والجمهور المُعبّأ بالحروب، والغضب، والأحادية والبُعد الواحد، يتماهى بحزبه.
بإسم اللبنانيين
يتكلّم سعد الحريري باسم اللبنانيين، ولهُمْ. يلجأ إليهم لكي يحموا معه بيروت، والمدن الأخرى حتى آخر دسكرة. فسلاح الآخر داهم وجاهز لمشاريع لا علاقة له بها. من الخارج وإلى الخارج، على حساب لبنان. حزب «سلطة» يقابلها الحريري بحزب جمهورية بكلّ مفارقاتها ودلالاتها وتعدّديتها، وتاريخها. حزب يريد صناعة إنسان جديد مصنوع صناعة الروبوتات في مصانع إيران، يقابله الحريري بإنسان لبناني، عربي، عالمي، مندمج بترابه، بطفولته، بأحلامه، بقوّته وضعفه، بمآسيه وأفراحه، بآماله وخساراته. أي إنسان يختلف عن صنيعة الروبوتات، العمياء، الصمّاء، البكماء، تتحرّك بالنواهي والأوامر، خارج معيشها، وإحساساتها، وإراداتها. وهذا ظاهر في المهرجانات التي أُقيمت في كل المناطق: جمهور الحزب أمام شاشة يطلّ منها السيّد نصرالله، مجرّداً، متباعداً، كأنّه آتٍ من فيلم افتراضي قديم يذكّرنا «بالأخ الكبير» الذي صدره جورج أورويل في روايته – التحفة «1984». صورة الأخ الأكبر في كل الشاشات، يحكم من ورائها، بالتهديد والوعيد في مساره التوتاليتاري. ومن هي التوتاليتارية سوى زعيم يحكم الناس من وراء الشاشات التي تعمّم في كلّ مكان، كأنها إنذارات يومية، واستننفارات يومية «لعدوّ» دائم، ولحروب لم تقع وراء الحدود. من هنا يطلق الكلام على عواهنه، وكأنّه موجّه إلى جمهور غائب. جمهور تجريدي، تسيّره شاشات، وكواليس، وأنفاق، وعنف.
سعد الحريري خرجَ من كل الشاشات، وتوجّه إلى جمهور ملموس: يلمسه ويتلمّسه، يصفّق له ويردّ له التصفيق، يصرخ عاطفة فائضة، ويردّها له بعاطفة أكبر.
ذلك أنّ جمهور الحريري في كل لبنان، يتحرك بإرادته (لا بإرادة الشاشة)، بشغفه لا بأوامر فوقية، بهوياته المتعددة، لا بهويّة مزيّفة لا تعرف من ولمن صُنعت.
إنّها الهويّة اللبنانية، مقابل هويّة ولاية الفقيه. الهوية العربية مقابل الهويّة الفارسية. الهويّة العالمية مقابل الهويّة الانعزالية. هويّة قبول الآخر لا هويّة اعتباره عدواً، هويّة التسامح لا هويّة الانتقام الآتي من مئات السنوات، هويّة الإرث العربي، لا هويّة الإرث المجهول الهويّة.
هويّاته
سعد الحريري، شَهَرَ كلّ هويّاته بين الناس، وعلى مرأى منهم، وبقربه، وحوله، وقال هذه هي هويّاتي: دولتي اللبنانية، جمهوريّتي اللبنانية، حدودي اللبنانية، امتدادي العروبي، انفتاحي الحضاري.. كلّ شيء بادٍ وواضح، فالمعركة الأساسية (دعك من بعض التفاصيل والطموحات الفائضة عند بعضهم) هي بين متناقضَين أصلاً. فلمن ينحاز اللبناني؟ أيصوّت ضدّ لبنان وهو لبناني. ضدّ العروبة وهو عربي. ضد الحريّة هو مُعتنقها. ضدّ الدولة وهو مُحتضنها. ضدّ الجمهورية وهو مظلّتها، ضدّ التعدّدية وهو فارسها.. ضد السيادة وهو مُحقّقها. ضدّ الديموقراطية وهي من أنفاسه؟
الحسم
نعم، على الجمهور أن يحسم أمره، بدون مناطق رمادية، ليصوّت لكلّ مَنْ يضع مصلحته فوق كل اعتبار، ومصيره فوق كل إرادة خارجية. ومستقبله فوق كل نوازع ماضوية – عصبية متكلّسة. وانتماء فوق كل مذهبية كانتونية، (وكل كانتونية مذهبية من صنيعة الأدوات الخارجية)، تربط البلاد بمرابط إيران، أو نظام الأسد. مربَط خيلنا لبنان وميداننا العربي.
ننتظر أو نأمل، أن يقول الشعب اللبناني – العربي كلمته الحاسمة: صوتنا من أجل الدولة لا الدويلة. من أجل الجمهورية الواحدة لا من أجل الجمهورية المُستعارة في بعض الكانتونات. صوتنا من أجل حرّياتنا لا من أجل وجودنا.. لا من أجل إلغائنا.
صوتُنا لسعد الحريري مجسّد آمالنا وطموحاتنا!
صوتُنا لرجل الدولة سعد الحريري، ولتيّاره وحلفائه، لا لفلول ميليشيا تعيش خارج زمنها وأرضها!
صوتُنا لمصلحة «لبنان أولاً»!
بول شاوول