Site icon IMLebanon

فات الأوان لإنقاذ «عين الحلوة»؟

«النار تحت الرماد في عين الحلوة». العبارة ليست جديدة. فالمخيّم كان دائماً شبيهاً بالبركان الذي يهدأ ويثور. لكنّ درجة الاحتقان تزداد تدريجاً، وفي شكل مقصود. ويبدو أنّ هناك شيئاً ما بات ينتظر عين الحلوة، بعد مخيّمَي البارد واليرموك.

اندلعت اشتباكات عين الحلوة في لحظة وصول بان كي مون والوفد الدولي. ومن الصعب الاقتناع بأنها مجرد صدفة. يكفي التذكير بأنّ عين الحلوة كانت تموج بالغضب قبل أسابيع، وقرَّرت فصائلها جميعاً أن تتحرَّك من المخيم إلى بيروت، في وجه الأمين العام، احتجاجاً على الإسقاط التدريجي لـ«الأونروا»، الشاهد الدولي الوحيد على حقّ الفلسطينيين في العودة.

لقد جرى إغراق «عاصمة الشتات» في معاركها الداخلية، من دون سابق إنذار، ولم يعُد لدى أحد متَّسع من الوقت للتفكير في «الأونروا»، بل إنّ مسلّحين عمدوا إلى منع إقامة اعتصام عند مدخل المخيم، لجهة «حِسْبَة صيدا»، كان مقرراً للاحتجاج على سلوك «الأونروا»!

إذاً، هناك اقتناع لدى مسؤولين فلسطينيين بأنّ الاشتباكات الأخيرة جرى تدبيرها للإلهاء عن مسألة وطنية كبرى. وهذا يَستَتبِع سؤالاً خطِراً: إذاً، مَن هي الجهة المشبوهة التي افتعلت، من قلب المخيم، هذه الاشتباكات لتخدم مصالح إسرائيل؟ وكيف تتغلغل في المخيم وتتمتع بحصانة أمنية، وتتلطّى بالشعارات؟

الأرجح أنّ القوى الوطنية في عين الحلوة لا تجرؤ على إطلاق اتهام مباشر لهذه الجهات بأنها متآمرة. فلو فعلت ذلك، لزادت الطين بلَّة، ولكان ذلك اعترافاً بأنّ المخيم مخروقٌ بجهات مشبوهة أو مأسور لها.

وفي هذه الحال، سيصبح مبرَّراً للسلطة اللبنانية أو سواها أن تقوم بضرب المخيم وإنهاء الحالة الشاذة فيه، على طريقة البارد عام 2007. وهذه كأسٌ تحاول كلّ القوى الفلسطينية تجنّبها، كلٌّ لغايات ومصالح مختلفة.

لذلك، فضَّل الجميع أن تنتهي الاشتباكات الأخيرة، كما بدأت، على مضض وبالترقيع. لكنهم يدركون أنّ الجولة التالية آتية لا محالة، وأنّ جولةً ما ستأتي في يومٍ ما، وستكون مختلفة عن سابقاتها، لأنها ستنهي الوضع الحالي للمخيم، بسكانه الـ120 ألفاً، وتنقله إلى وضعٍ آخر… أفضل أو أسوأ.

بعد انتهاء الحرب في نهر البارد، بقي مخيم فلسطيني واحد في الوضعية القابلة للانفجار، هو عين الحلوة. يومذاك أيضاً، جرت مواجهة دموية بين المخيم والجيش الذي جرى استهدافه في شكلٍ مشبوه، وسقط له شهداء.

ولكن، لم يصل مخيم عين الحلوة إلى ما وصل إليه البارد لأسباب عدة:

1- لم يكن الوضع الداخلي اللبناني ناضجاً سياسياً لمعركة ثانية مع قوى فلسطينية.

2- إنّ المخيم هو الأكبر في لبنان. فإذا كانت أكلاف المواجهة في البارد في هذا الحجم، فإن أكلاف المواجهة في عين الحلوة أكبر.

3- إنه يقع على تماسّ مع منطقة نفوذ «حزب الله». وأيّ مواجهة فيه كانت ستوحي بأنّ «الحزب» مشارك فيها، وهذا ما حاول «الحزب» إبعاده دائماً. والجميع يذكر قول السيد حسن نصرالله قبيل معركة البارد إنّ هذا المخيم «خط أحمر».

آنذاك، حاول لبنان، ديبلوماسياً وأمنياً، أن يُقنِع القوى المسيطرة على المخيم بأن تفتح الباب للجيش اللبناني ليدخل سلمياً ويقوم بواجب ضبط الأمن لمصلحة أهل المخيم ومنع تعرُّضه لخرق القوى المشبوهة، على طريقة «فتح- الإسلام» في البارد.

لكنّ لبنان اصطدم بإجماع فلسطيني على الرفض. وتعاطت السلطة الفلسطينية مع الطلب اللبناني بحدَّة، واعتبرت أنّ للمخيم حرمة لا يجوز إسقاطها. فهو «عاصمة الشتات» وهو سيبقى حالة موقَّتة إلى أن يجري حلُّ القضية الفلسطينية.

ولأنّ أحداً لم يكن مستعداً لدفع ثمن باهظ، لا لبنان ولا الفلسطينيون، جرت تسوية تقضي بإمساك الأمن اللبناني وضع المخيم، ولكن بـ»الريموت كونترول»، ما يوفر على الجيش مواجهة دموية، فيما تقوم «فتح» والقوى المرجعية في المخيم بضبط الوضع وتقديم المعلومات الواضحة للجانب اللبناني، في شكل منتظم، عن تطوُّر الوضع في الداخل.

بعد ذلك، وفي ظلّ تعقيدات الحرب السورية، جرت محاولة لإدخال المخيم في مثلث أمني- عقائدي مع حالة الشيخ أحمد الأسير في عبرا، وقوى إسلامية رديفة في صيدا. وقادت هذه المحاولة قوى إقليمية كانت تدعم «داعش». لكنّ بعض القوى اضطر إلى سحب يده من بقعة سوريا ولبنان. وأحد الأهداف الأساسية لاستعجال إنهاء حالة الأسير كان منع ربطها بالمخيم.

اليوم، تعاني مرجعية المخيم السياسية والأمنية مأزقاً كبيراً. فهي عاجزة ، لكنها لا تعترف بالعجز. وهي أنهت الاشتباكات الأخيرة على مضض، لأنّ السلطة اللبنانية تطالبها بذلك، والسلطة الفلسطينية وجماهير المخيم.

لكنّ المعلومات الواردة إلى الأمن اللبناني، وتعرفها القوى الفلسطينية المعنية بأمن المخيم، تثير القلق بسبب بروز عناصر جديدة:

1- أظهرت المعركة الأخيرة أنّ «داعش» باتت تخرق المخيم من خلال مجموعات فلسطينية وسورية دخلت إليه من سوريا وأخرى كانت مقيمة فيه، وهي تزداد نفوذاً من خلال محاولاتها استيعاب مجموعات جديدة في أحياء جديدة، علماً أنّ الإسلاميين يتحصنون أساساً في حي الصفصاف، معقل «الشباب المسلم».

2- إنّ «عصبة الأنصار» وجماعات سلفية أخرى تتدخل عادة لدى بلال بدر، مسؤول «الشباب المسلم»، عند وقوع أيّ اشتباك، بدت أخيراً متعثِّرة، نتيجة التعقيدات التي يثيرها دخول «داعش» في اللعبة.

3- تبيّن أنّ المزاج الإسلامي ظهر أكثر قوة في المخيم بسبب قيام المجموعات الوافدة من الخارج بدفع مبالغ من المال إلى بعض الشباب ليحظى بالولاء له. وهذه الطريقة تعتمدها «داعش» أيضاً في جرود عرسال لاجتذاب عناصر «النصرة».

4- انقسام «فتح» إلى جناحين، يتقاربان ويتعاونان وفقاً للمصالح ومقتضيات تدعيم النفوذ في عين الحلوة وداخل السلطة الفلسطينية في رام الله.

ويعترف أحد الكوادر الفلسطينية بأنّ اللجنة الأمنية المشتركة قاربت حدَّ العجز عن ضمان الأمن، لأنّ مسلّحي الجماعات الإسلامية بات عددهم يناهز عدد عناصر اللجنة الأمنية (نحو 350 رجلاً). فهل تحزم القوى الفلسطينية أمرها وتسارع إلى الحسم، إما بواسطة القوة الأمنية المشتركة، وإما بدعوة الجيش اللبناني إلى أخذ زمام المبادرة في المخيم؟

على الأرجح، كلا الحالين غير وارد. فلا «فتح» مستعدة للتخلّي عن «سيادة» المخيم، ولا الوسطاء الإسلاميون مستعدون لمواجهة الجماعات التكفيرية، سواءٌ كانوا يدركون أهدافها أم لا. وحتى لبنان، لا يبدو مستعداً الآن لأخذ زمام المبادرة في المخيم وإنهاء الحالة الشاذة. فذلك يتطلب تهيئة الظروف الفلسطينية واللبنانية.

إذاً، يمكن القول إنّ الأوان قد فات على إنقاذ عين الحلوة، وإنها اليوم متروكة لمصيرها بين نموذجين: نموذج البارد حيث كانت نسخة سابقة من «داعش»، هي «فتح- الإسلام»، أوقعته في مأزق. ونموذج اليرموك الواقع تحت هيمنة النسخة الحالية من «داعش».

وهكذا، تعود الذكرى الحادية والأربعون لـ13 نيسان 1975، والفلسطينيون من جولة استهداف إلى أخرى، حيث القوى المشبوهة- من الداخل خصوصاً- تقودهم إلى الكوارث، فيما أصحابُ القضية جرى بعضُهم إنهاؤه بالتصفيات، وبعضُهم إلهاؤه بالمصير أو إنهاكُه في الزواريب.