قمة البيت الأبيض أكدت صداقة رجلين جمعتهما ظاهرة واحدة: صعود الى قمة السلطة من خارج النادي السياسي التقليدي، بصرف النظر عن الفارق بين الشخصيتين والبلدين. لكن التقاليد لا تزال تتحكّم بادارة السياسات. أميركا، قبل الرئيس دونالد ترامب ومعه وبعده، قصيرة النفَس ومتقلّبة لا تمكن مصالحة ديمقراطيتها وسياساتها الداخلية مع سياسة خارجية ثابتة كما قال الكسيس دو توكفيل في القرن التاسع عشر. وفرنسا، قبل الرئيس ايمانويل ماكرون ومعه وبعده، صاحبة مواقف ثابتة ورؤية بعيدة ومتمسّكة بصداقاتها. والسياسات والمواقف الأكثر ثباتا مع الأصدقاء والخصوم هي في روسيا القيصرية والسوفياتية، قبل الرئيس فلاديمير بوتين ومعه وبعده.
ولا شيء يوحي، حتى اشعار آخر، ان سحر ماكرون نجح في التأثير السياسي على مواقف ترامب. فما يقلق ماكرون ومسؤولين في الادارة الأميركية هو ان يصرّ ترامب على سحب قوات بلاده من شرق الفرات، بحيث يقدم هدية مجانية لروسيا وايران والنظام، مع انه يريد إغلاق طريق ايران البرّي الى البحر المتوسط. وما يريده ماكرون وقادة مجموعة ٥١ باستثناء ترامب هو الحفاظ على الاتفاق النووي، لأن الخروج منه خطير.
لكن ترامب كرّر موقفه المصرّ على سحب القوات الأميركية بعد انهاء المهمة في قتال داعش. وليس واضحا ان كان يناور لكي تدفع دول عربية كلفة بقاء القوات أو لتوريط أوروبا معه أكثر فأكثر، بحيث يضمن الوجود الغربي في سوريا لمنع ايران من الانتصار. وكرّر موقفه الرافض للاتفاق النووي الذي يصفه بأنه كارثة وأسوأ صفقة في التاريخ مهددا بالخروج منه بحلول ١٢ أيار المقبل ان بقي على حاله. وليس المخرج الذي عرضه ماكرون سوى مأزق آخر.
ذلك ان الرئيس الفرنسي اقترح التفاوض على اتفاق جديد، وليس تعديل اتفاق فيينا الذي لا بد من الحفاظ عليه حتى ايجاد البديل. وهو تفاوض على ثلاثة أمور يراها ترامب ناقصة في الاتفاق الحالي: وقف تطوير الصواريخ الباليستية، تحديد النفوذ الايراني في المنطقة، وبقاء القيود على تخصيب اليورانيوم سارية المفعول بعد العام ٢٠٢٥ بشكل دائم. وهذه مهمة مستحيلة. أولا لأن الوقت قصير قبل ١٢ أيار موعد تنفيذ ترامب لتهديده بالخروج من الاتفاق. وثانيا لأن ما رفضت طهران مجرد البحث فيه خلال المفاوضات الطويلة السرّية مع أميركا والمعلنة مع مجموعة ٥١ زادت حاليا الظروف والقدرات على رفضه. وثالثا لأن التفاوض على اتفاق جديد يحتاج الى القبول والمشاركة من كل الأطراف في الاتفاق الحالي.
ألم يقل الدكتور هنري كيسينجر انه اذا كانت عداوة أميركا خطرة، فان صداقتها مميتة؟