IMLebanon

«مِشعل» المفقودين ينطفئ… مَن يُضيء عتمة زنزاناتهم؟

في اللحظات المفصلية التي تعيشها الأوطان، تُطوى صفحات وتُفتح صفحات أخرى، وهذا كله ضمن التطوّر الطبيعي للحياة السياسيّة والوطنية، لكنّ منطق الإستثناءات حاضر دائماً خصوصاً عندما يرحل أشخاص طبعوا المفكّرة الوطنية بقضايا لا تزال تترك أثرها حتّى يومنا هذا.

تتردَّد في الساحة اللبنانية والعربية والعالمية كلمات ومصطلحات رنّانة، من المقاومة الى التصدّي والصمود وصولاً الى الدفاع عن القضية على إختلاف أنواعها، وتنشغل الساحة اللبنانية بقضايا عدّة، إذ إنّ لكلّ فريق قضيته الخاصة، فيما المشكلة الحقيقية تبقى بعدم توحّد اللبنانيين على مفاهيم واضحة.

مهما تشعّبت القضايا وتنوّعت، تبقى قضية المخطوفين والمخفيّين قسراً في السجون السوريّة الجرحَ النازف لمئات العائلات، هذا الجرح الذي حمل لواءه رئيس جمعية «سوليد» غازي عاد منذ البدايات، خصوصاً عندما أسّس جمعية «سوليد» عام 1993 لتحريك ملف المفقودين في السجون السورية. معاناة كبيرة عاشها مع الأهالي، مضايقات تعرّض لها وتهديدات، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من إكمال المشوار الى أن أتت ساعة الرحيل بعد دخوله في الغيبوبة.

إنه الرحيل الذي لا مفرّ منه، رحيل يصطحب معه أملاً بعودة مَن تشرّد وهُجّر وخُطف وسُجن، إنها لحظات الإنتظار الصعبة واحتساب ساعات العودة المظفرة لأناس كانوا ضحية حرب 1975، خرجوا من منازلهم مقاتلين دفاعاً عن وطنهم، وكذلك مواطنين ذاقوا عذابات حواجز الاحتلال ولم يدركوا أنّ هذا هو خروجهم الأخير من منزلهم الى أقبية السجون والموت والإخفاء القسري.

لم يكن غازي عاد شخصاً عادياً أو رجلاً تبوّأ منصباً في جمعية مثل معظم الجمعيات التي تحصل على رخصة بهدف إنساني وما أدراك ماذا تفعل. إنه رجل يختزل مرحلة، مرحلة إحتلال، مرحلة نضال وشقاء، مرحلة تأمُل بغد أفضل، وقد شكل حبّة من مسبحة كان اللبنانيون ينتظرونها كلّ مساء في نشرات الأخبار عندما كانت ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي غير متفشية والمحطات الفضائية محدودة ومعدودة.

شكّل عاد صورة مصغّرة عن وطن مخطوف، ورمزاً من رموز النضال، كان اللبناني يستمع الى نشرات الأخبار، يتحمّس عندما ينزل القواتيون والعونيون وشباب آخرون الى الشارع يطالبون بالحرّية والسيادة والاستقلال، يتأملون عندما ترتفع المطالب بخروج الدكتور سمير جعجع من السجن وعودة العماد ميشال عون من المنفى، ترتفع معنوياتهم عندما يسمعون عظات ومواقف البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير يقود القوى الاستقلالية، ولا يكتمل المشهد الاستقلالي إلّا عندما يطلّ عاد مُحاطاً بالآباء والأمهات للمطالبة بعودة أبنائهم وتحريرهم من السجون السورية وكشف مصيرهم لأنّ الإستقلال لا يتحقق من دون عودتهم.

أكثر من 17 ألف مخطوف ومئات المسجونين والمخطوفين في السجون السورية حمل عاد قضيتهم، وعند تحرير أيّ مجموعة منهم كانت الآمال ترتفع بفك أسر حاملي الهوية اللبنانية. وفي حين كانت السلطات اللبنانية تقول إن لا أسرى في سوريا، كان صوت عاد كالهادر في البرّية، لا يستكين ولا ييأس، وقد شكل الاعتصام الأخير في حديقة جبران خليل جبران النقطة الرمزية لتذكير الدولة بضرورة العمل لاستعادة أبنائها.

لم يكن عاد حسب أهالي المسجونين والمخطوفين رئيساً لجمعية، بل كان موجوداً دائماً ومرشداً لهم خصوصاً عندما كثر الاستغلاليون الذين كانوا يبتزّون الأهالي ويقولون لهم إدفعوا ونحن نستطيع إرجاع أولادكم، وكانت كلها وعود كاذبة وقع كثر ضحيّتها فيما الدولة في غيبوبة.

لا يمكن حصر المفقودين والمسجونين بفئة معيّنة، بل هم ينتمون الى كلّ الطوائف والأحزاب والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، كما أنّ هناك عدداً كبيراً من الجنود الذين خطفوا أثناء عملية 13 تشرين 1990.

وإذا كانت عودة العماد ميشال عون الى قصر بعبدا تُعتبر جزءاً من تصويب الماضي وإقفالاً لمرحلة الإقصاء، إلّا أنّ رحيل عاد في بداية هذه المرحلة يترك مؤشرات غير مطمئنة في نفوس الأهالي وسط الخوف من المستقبل، إذ إنه غاب من دون عودة المخفيّين، وهو طوى الصفحة الأخيرة من حياته، وربما يعرف أنه يسلّم الأمانة الى رفاقه في النضال ورئيس الجمهورية الجديد الذي لم ينسَ أن يذكر في «احتفال بيت الشعب» في 6 تشرين الثاني الشهداء والمخطوفين.

كيف ستعمل «سوليد» من بعده، هل ستُكمل بالزخم نفسه ومن سيحمل المشعل؟ كيف ستتعاطى الدولة مع هذا الملف الإنساني، أسئلة كثيرة تُطرح والإجابة عنها تُترك للأيام المقبلة لأنّ الوضع يحتاح الى قرار وليس الى لجان «تقبر» القضية، وتمدّد أمد الأوجاع.