IMLebanon

التعذيب في لبنان: ممارسة «طبيعية» متفشية

بعد تأخير 15 عاماً، قدّمت الدولة اللبنانيّة تقريرها الأوليّ إلى لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة، المفترض مناقشته في خلال الدورة الستين للجنة بين 17 نيسان و12 أيار المقبل. تذرعت السلطات اللبنانية طوال هذه الفترة بـ «الأسباب السياسيّة الحادّة التي يعاني منها البلد»، لكنها اضطرت في النهاية إلى أن تضع تقريرها لتردّ على تقرير صادر عن لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة يتضمن أدلة على وجود التعذيب في لبنان

في عام 2008، تلقّت لجنة مناهضة التعذيب بلاغاً من منظّمة «الكرامة» لحقوق الإنسان، يتضمن معلومات عن الاستخدام المنظّم للتعذيب في مراكز أمنيّة لبنانيّة، أغلبها متّصلة بالتوقيفات التي تلت معارك مخيم نهر البارد، التي شهدها شمال لبنان منتصف عام 2007.

تحوّلت هذه المعلومات إلى محور بحث في جلسات خاصّة مع الدولة اللبنانيّة عُقدت في عام 2011، يومها أتت الردود غير مرضية، مقارنة مع المعلومات التي وصفتها لجنة الأمم المتحدة بـ»الموثوقة وتتضمّن دلائل حسيّة وقويّة»، فقرّرت اللجنة بموجب اتفاقيّة مناهضة التعذيب (وقّع عليها لبنان عام 2000) إجراء تحقيق سريّ، على أن يتضمّن زيارة حُدّد موعدها في نيسان 2013.

التعذيب في المراكز الأمنيّة

بدأ التحقيق السري في أيار 2012 وانتهى في تشرين الثاني 2013، وتخلّلته زيارات لمجموعة من المراكز الأمنيّة اللبنانيّة، بلغ عددها 20 مركز احتجاز تتضمّن مركزي شرطة في بيروت والنبطية، ومرافق الاحتجاز التابعة لمحاكم قصر العدل في بيروت والنبطية وطرابلس، و3 مرافق احتجاز خاضعة لقوى الأمن الداخلي في بيروت وصيدا وطرابلس، و3 مرافق احتجاز خاضعة لسلطة وزارة الدفاع في بيروت وصيدا، و6 سجون مدنيّة في بيروت والنبطية وطرابلس وصور وزحلة، ومرفقين لاحتجاز النساء في طرابلس وبيروت، مركز الاحتجاز الإداري للمهاجرين غير الشرعيين التابع لمديريّة الأمن العام في بيروت، حيث اجتمع المحققون مع المحتجزين وموظّفي إنفاذ القانون والموظّفين الطبيين. كذلك أجرت لجنة التحقيق 216 مقابلة فرديّة مع شهود وضحايا تعذيب، أفاد 99 منهم بتعرّضهم للتعذيب، فيما لم يُسمَح لها بالاطلاع على سجلات المحتجزين في مرافق الاحتجاز التابعة لمخابرات الجيش في صيدا (قيادة منطقة الجنوب)، ولا في المرافق التابعة لفرع المعلومات في طرابلس (قيادة منطقة الشمال)، ولم تتسلّم قائمة بجميع أماكن الاحتجاز… خلصت اللجنة إلى أن بعضاً من السجلات الطبيّة والتقارير المقدّمة غير حقيقيّة، وإنّما أعدّت خصيصاً للزيارة! وأن التعذيب ممارسة متفشية في لبنان تلجأ إليها الأجهزة المكلفة إنفاذ القانون لأغراض التحقيق وانتزاع الاعترافات، وأحياناً لمعاقبة الضحايا على الأعمال التي يُعتقد أﻧﻬم قد ارتكبوها. وتمارس هذه الأجهزة التعذيب بطريقة محترفة، خصوصاً أن الفحوص الطبيّة على أجسام الضحايا توحي بانتشار ممارسة التعذيب بما لا يعرّض مرتكبها للعقاب، إضافة إلى وجود نمط واضح للتعذيب يطاول الموقوفين بجرائم تتصل بأمن الدولة، والأجانب ولا سيما السوريون والفلسطينون، وذوي الدخل المنخفض والمثليين جنسياً (أي الفئات المهمّشة في المجتمع اللبناني). فضلاً عن وحشية أساليب التعذيب المستخدمة في مراكز الاحتجاز، ووجود أدوات غير عادية، وحتى تجهيزات مصمّمة خصيصاً لممارسة التعذيب.

عنف جنسي وكرسي التعذيب الكهربائي

نشرت الأمم المتحدة ملخّصاً عن تحقيقاتها في تقريرها السنوي لعام 2014، رغم معارضة الدولة اللبنانيّة ذلك، وضمّنته نتائج الزيارات التي قامت بها لمراكز الاحتجاز. هناك رصدت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، من العنف الجنسي إلى التعذيب بالتيّار الكهربائي.

في سجن بعبدا، أكّد الموظّفون الطبيّون أن الفحوص البدنيّة التي أجريت في مناسبات عدّة، كشفت علامات تعذيب واضحة، بما فيها العنف الجنسي، كذلك ظهرت جروح سطحيّة على الجلد، قد تكون ناتجة من تعريض قدمي السجينة للتيار الكهربائي.

أمّا في خلال زيارة مركز فرع المعلومات في الأشرفية، فتبيّن أن غرف الاستجواب الخمس في الطابق السابع من المبنى ومحتوياﺗها (من ضمنها كرسي تحقيق مثبت بالأرض مع حلقات إلى جانبه، وصناديق لتوصيل الكهرباء مثبتة بالأرض، وعدة حُفر صغيرة في الأرض والسقف) مطابقة للوصف الذي تلقته من ضحايا تعرضوا للتعذيب محتجزين في سجن رومية (أغلبهم من موقوفي مخيم نهر البارد الفلسطيني في المبنى «باء»)، ادّعوا أﻧﻬم تعرّضوا للتعذيب في أثناء الاحتجاز لدى قوى الأمن الداخلي. ووجد أعضاء البعثة في غرفة للتخزين كرسياً حديدياً منخفضاً جداً، وله مسند للرأس متحرّك على شكل الحرف C، ورغم أن موظفي قوى الأمن الداخلي المناوبين قالوا لهم إن الكرسي يُستخدم لالتقاط صور للمحتجزين، فإن هذا النوع من الكراسي يطابق الوصف الذي قدّمه أحد الضحايا المزعومين إلى البعثة، وكذلك المعلومات التي قدّمتها منظمة «الكرامة» في بلاغها الأول، عن كرسي معدني يُستخدم لشدّ العمود الفقري ويسبّب ضغطاً كبيراً على رقبة الضحية وساقيه.

أمّا في الوقت الذي أُجريت فيه الزيارة، فكان يُحتجز رجلان في الزنزانات، أحدهما تعرّض لسوء المعاملة في أثناء توقيفه وأُخذ إلى المستشفى لمعالجة إصاباته.

لا يختلف الأمر كثيراً في سجن مديرية المخابرات العسكريّة، أو ما يُعرف بسجن وزارة الدفاع في اليرزة، فرغم أنه كان فارغاً يوم الزيارة، إلّا أن الطبيب الشرعي المرافق أكّد عدم صحّة السجل الطبي المُبرز، فيما رصدت اللجنة داخله بطاريّات سيارات عدّة على أرض غرفة التسجيل المُلاصقة لغرفة الاستجواب في القبو المؤلف من طبقتين، إضافة إلى كرسي متحرّك مطويّ وموضوع في أحد الممرّات (برّر العناصر وجوده لنقل ذوي الإعاقة)، كذلك وُجد مقعدان طويلان منخفضان، وقضيب خشبي مكسور دون أن يحدّد أحد طبيعة استخدامها.

وفي مخفر حبيش، تلقّت اللجنة ادعاءات عن ممارسة أفراد قوى الأمن الداخلي للتعذيب وسوء المعاملة بحق السجناء، عند التوقيف أو في خلال التحقيق في مكان الاحتجاز لدى الشرطة. وأيّد بعض هذه الأقوال أدلّة الطبّ الشرعي التي جمعها الطبيب الشرعي المرافق للبعثة. وفي قصر العدل في بيروت برزت حالات تعذيب وسوء معاملة بدنيّة حديثة بحقّ المشتبه فيهم من أفراد المخابرات العسكريّة، مورست في خلال الاستجواب بغية انتزاع الاعتراف. وفي السجون المدنيّة، برز عدد أقل من أعمال التعذيب مارسها موظّفو السجون وتتمثّل بعقوبات بدنيّة وظروف احتجاز صعبة في الزنزانات التأديبيّة. أمّا الأبرز، فكان التعذيب وسوء المعاملة عند التوقيف وفي أثناء الاستجواب في مخافر الشرطة ومراكز الاحتجاز التابعة لقوى الأمن الداخلي والمخابرات العسكريّة. كذلك تلقت البعثة ادعاءات عن سوء معاملة المحتجزين من موظّفي المديريّة في مركز الاحتجاز الإداري للمهاجرين غير الشرعيين التابع للأمن العام في بيروت، علماً بأن السجون فيها كانت دون تهوية وضوء طبيعي، وكانت مليئة بالحشرات.

الدولة في كوما اصطناعيّة

إن عدم التزام الدولة اللبنانيّة المواعيد المحدّدة دولياً لتقديم التقرير والآليات التي اعتمدتها لمناهضة التعذيب، يبقى شكلياً في معرض الانتقاد، أمام ما ورد في مضمون التقرير الأولي. صحيح أنها (أي الدولة) عرضت مجلّداً من مقدّمة و16 فصلاً، لكنّه أقرب ما يكون إلى مرجع بحث في الدستور والقوانين والاتفاقيات اللبنانيّة المُبرمة حول مناهضة التعذيب، وتجميع للجهود المعلنة والواجب تنفيذها من أجل إلغائه نهائياً من ممارسات الدولة اللبنانيّة. فالتقرير الأولي للدولة يتجاهل خلاصات لجنة التحقيق بمزاعم التعذيب وتوصياتها، على الرغم من أن الدولة سبق أن عبرت عن ذهولها منها وشكّكت في صدقيتها.

غاصت الدولة في تعريف التعذيب وفق القوانين المرعيّة الإجراء، بهدف الإضاءة على تركيبته الدستوريّة والقانونيّة، بحسب ما تشير القاضية نازك الخطيب (من معدّي التقرير)، باعتبار أن «اللجنة الاممية لا تعرف لبنان، وهي بحاجة لأخذ فكرة عن تركيبته، قبل أن ترسل لها التقارير الدوريّة المفصّلة». كذلك غاصت في استعراض إنجازات «وهميّة» لم تتحقّق؛ فهي عدّدت مشاريع قوانين تناهض التعذيب عملت عليها، دون أن تشير إلى أنها عالقة في أدراج مجلس النواب. وركّزت على محاكمة بعض العناصر الأمنيّة (رتيب وعميد) وغضّت الطرف عن الأحكام الصادرة فيها (في الحالة الأولى غرّم رتيب 400 ألف ليرة، وفي الحالة الثانية أعلنت براءة عميد، رغم وفاة ضحية التعذيب، ورغم وجود تقرير طبي يؤكّد وفاتها نتيجة التعذيب). ولم تكتفِ بذلك، بل فاخرت بعملها على تحسين سجن وزارة الدفاع الذي استُحدث تحت الأرض في بداية التسعينيات لسجن المتهمين بتفجير كنيسة سيدة النجاة، بدل السعي إلى إلغائه، نظراً إلى الانتهاكات المُمارسة فيه، ولعدم مطابقته المعايير الدوليّة.

قدّم المركز اللبناني لحقوق الإنسان تقرير ظلّ إلى لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، يفنّد فيه فصول التقرير اللبناني وينقدها، مستنداً إلى إحصاءات وشهادات وثّقها عن حالات التعذيب منذ عام 1996، ومن المفترض إدراجه على جدول أعمال المناقشة المرتقبة في الأمم المتحدة. وتشير تلك الإحصاءات إلى أن 60% من الأشخاص الذين اعتقلوا لأكثر من سنة (بين 2009 و2015) تعرّضوا لضروب خطيرة من التعذيب وسوء المعاملة في مرحلة معيّنة من اعتقالهم، وخصوصاً في خلال التحقيقات الأوليّة وفي خلال الاعتقال الإداري (للأجانب)، وأن منظومة ممارسة التعذيب لا تقتصر فقط على عناصر قوى الأمني الداخلي، والأمن العامّ، ومخابرات الجيش، والتحري، بل تصل إلى الجسم القضائي.